فصل: المسألة السادسة: (في جواز الاستثناء من الجنس)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


الباب الرابع في الخاص والتخصيص والخصوص

وفيه ثلاثون مسألة‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في حده

فقيل الخاص هو اللفظ الدال على مسمى واحد ويعترض عليه بأن تقييده بالوحدة غير صحيح فإن تخصيص العام قد يكون بإخراج أفراد كثيرة من أفراد العام وقد يكون بإخراج نوع من أنواعه أو صنف من أصنافه إلا أن يراد بالمسمى الواحد ما هو أعم من أن يكون فردا أو نوعا أو صنفا‏.‏

لكنه يشكل عليه إخراج أفراد متعددة نحو أكرم القوم إلا زيدا وعمرا وبكرا ثم يرد على هذا الحد أيضا أنه يصدق على كل دال على مسمى واحد سواء كان مخرجا أولا قيل في حده هو ما دل على كثرة مخصوصة ويعترض عليه بان التخصيص قد يكون بفرد من الأفراد نحو أكرم القوم إلا زيدا وليس زيد وحده بكثر وأيضا يعترض عليه بأنه يصدق على كل لفظ يدل على كثرة سواء كان مخرجا من عموم أم لا إلا أن يراد بهذين الحدين تحديد الخاص من حيث هو خاص وأما التخصيص وهو المقصود بالذكر هنا فهو في اللغة الأفراد ومنه الخاصة وفي الاصطلاح تمييز بعض الجملة بالحكم كذا قال ابن السمعاني‏.‏

ويرد عليه العام الذي أريد به الخصوص وقيل بيان ما لم يرد بلفظ العام ويرد عليه أيضا بيان ما لم يرد بالعام الذي أريد به الخصوص وليس من التخصيص‏.‏

وقال العبادي التخصيص بيان المراد بالعام ويعترض عليه بأن التخصيص هو بيان ما لم يرد بالعام لا بيان ما أريد به وأيضا يدخل فيه العام الذي أريد به الخصوص وقال ابن الحاجب التخصيص قصر العام على بعض مسمياته واعترض عليه بأن لفظ القصر يحتمل القصر في التناول أو الدلالة أو الحمل أو الاستعمال‏.‏

وقال أبو الحسين هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه واعترض عليه بأن ما أخرج فالخطاب لم يتناوله وأجيب بأن المراد ما يتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصص وقيل هو تعريف أن العموم للخصوص وأورد عليه أنه تعريف التخصيص بالخصوص وفيه دور وأجيب بأن المراد بالتخصيص المحدود التخصيص في الاصطلاح وبالخصوص المذكور في الحد هو الخصوص في اللغة فتغايرا فلا دور‏.‏

قال القفال الشاشي إذا ثبت تخصيص العام ببعض ما اشتمل عليه علم أنه غير مقصود بالخطاب وأن المراد ما عداه ولا نقول إنه داخل في الخطاب فخرج منه بدليل وإلا لكان نسخا ولم يكن تخصيصا فإن الفارق بينهما أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص بيان ما قصد باللفظ العام‏.‏

قال إلكيا الطبري والقاضي عبد الوهاب معنى قولنا إن العموم مخصوص أن المتكلم به قدر أراد بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز لأنه شبيه بالمخصوص الذي يوضع في الأصل للخصوص وإرادة البعض لا تصيره موضوعا في الأصل لذلك ولو كان حقيقة لكان العام خاص وهو متناف وإنما يصير خاصا بالقصد كالأمر يصير أمرا بالطلب والاستدعاء‏.‏

وقد ذكر مثل هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي وأما الخصوص فقيل هو كون اللفظ متناولا لبعض ما يصلح له لا لجميعه ويعترض عليه بالعام الذي أريد به الخصوص وقيل هو كون اللفظ متناولا للواحد المعين الذي لا يصلح إلا له ويعترض على تقييده بالوحدة مثل ما تقدم قال العسكري الفرق بين الخاص والخصوص بأن الخاص هو ما يراد به بعض ما ينطوي عليه لفظه بالوضع والخصوص ما اختص بالوضع لا بالإرادة وقيل الخاص ما يتناول أمرا واحدا بنفس الوضع والخصوص أن يتناول شيئا دون غيره وكان يصح أن يتناوله ذلك الغير وأما المخصص فيطلق على معان مختلفة فيوصف المتكلم بكونه مخصصا للعام بمعنى أنه أراد به بعض ما تناوله ويوصف الناصب لدلالة التخصيص بأنه مخصص ويوصف الدليل بأنه مخصص كما يقول السنة تخصص الكتاب ويوصف المعتقد لذلك بأنه مخصص وإذا عرفت أن المقصود في هذا الباب ذكر حد التخصيص دون الخاص والخصوص فالأولى في حده أن يقال هو إخراج بعض ما كان داخلا تحت العموم على تقدير عدم المخصص‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في الفرق بين النسخ والتخصيص

اعلم أنه لما كان التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بعض ما يتناوله اللفظ احتاج أئمة الأصول إلى بيان الفرق بينهما من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن التخصيص ترك بعض الأعيان والنسخ ترك الأعيان كذا قال الأستاذ الاسفرائني‏.‏

الثاني‏:‏ أن التخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال بخلاف النسخ فإنه لا يتناول إلا الأزمان قال الغزالي وهذا ليس بصحيح إن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال انتهى وهذا الذي ذكره هو فرق مستقل فينبغي أن يكون هو الوجه الثالث‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد بخلاف النسخ فإنه يكون لكل الأفراد ذكره البيضاوي‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أن النسخ تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص بخلاف التخصيص قاله أيضا الأستاذ واختاره البيضاوي واعترض عليه إمام الحرمين‏.‏

الوجه السادس‏:‏ أن التخصيص تقليل والنسخ تبديل حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي واعترض بأنه قليل الفائدة‏.‏

الوجه السابع‏:‏ أن النسخ يتطرق إلى كل حكم سواء كان ثابتا في حق شخص واحد أو أشخاص كثيرة والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول ومنهم من عبر عن هذا بعبارة أخرى فقال التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل فيه‏.‏

الوجه الثامن‏:‏ أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على الخلاف السابق والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية‏.‏

الوجه التاسع‏:‏ أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص‏.‏

الوجه العاشر‏:‏ أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى ولا يجوز التخصيص قال القرافي وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا أو المراد أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة أما كلها فلا لأن قواعد العقائد لم تنسخ‏.‏

الوجه الحادي عشر‏:‏ أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام ذكره القفال الشاشي والعبادي في زياداته‏.‏

الوجه الثاني عشر‏:‏ أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ ذكره الماوردي‏.‏

الوجه الثالث عشر‏:‏ أن التخصيص يجوز أن يكون مقترنا بالعام أو متقدما عليه أو متأخرا عنه ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدما على المنسوخ ولا مقترنا به بل يجب أن يتأخر عنه‏.‏

الوجه الرابع عشر‏:‏ أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع‏.‏

الوجه الخامس عشر‏:‏ أن التخيصص يجوز أن يكون بالإجماع والنسخ لا يجوز أن يكون بالإجماع‏.‏

الوجه السادس عشر‏:‏ أن التخصيص يجوز أن يكون في الأخبار والأحكام والنسخ يختص بأحكام الشرع‏.‏

الوجه السابع عشر‏:‏ أن التخصيص على الفور والنسخ على التراخي ذكره الماوردي قال الزركشي وفيه نظر‏.‏

الوجه الثامن عشر‏:‏ أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع ونسخه به غير واقع وهذا فيه ما سيأتي من الخلاف‏.‏

الوجه التاسع عشر‏:‏ أن التخصيص لا يدخل في غير العام بخلاف النسخ فإنه يرفع حكم العام والخاص‏.‏

الوجه الموفي عشرين‏:‏ أن التخصيص يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في الحال وإن كان غير مراد فيما بعده هذا جملة ما ذكروه من الفروق وغير خاف عليك أن بعضها غير مسلم وبعضها يمكن دخوله في البعض الآخر منها‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ ‏[‏في جواز تخصيص العمومات‏]‏

اتفق أهل العلم سلفا وخلفا على أن التخصيص للعمومات جائز، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد به وهو معلوم من هذه الشريعة المطهرة لا يخفى على من له أدنى تمسك بها حتى قيل إنه لا عام إلا وهو مخصوص إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ قال الشيخ علم الدين العراقي ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا أربعة مواضع أحدها قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ فكل ما سميت أما من نسب أو رضاع وإن علت فهي حرام ثانيها قوله‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان‏}‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏ ثالثها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ رابعها قوله‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏

واعترض على هذا بأن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات وهي أشياء وقد ألحق بهذه المواضع الأربعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها‏}‏ وقد استدل من لا يعتد به بما لا يعتد به فقال إن التخصيص يستلزم الكذب كما قال من قال بنفس المجاز أنه ينفي فيصدق في نفيه ورد ذلك بأن صدق النفي إنما يكون بقيد العموم وصدق الإثبات بقيد الخصوص فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد وما قالوه من أنه يلزم البداء مردود بأن ذلك إنما يلزم لو أريد العموم الشامل لما خصص لكنه لم يرد ابتداء وإنما أريد الباقي بعد التخصيص وقد قيد بعض المتأخرين خلاف من خالف في جواز التخصيص ممن لا يعتد به بالأخبار لا بغيرها من الإنشاءات ومن جملة من قيده بذلك الآمدي وعلى كل حال فهو قول باطل ومذهب عن حلية التحقيق والحق عاطل‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ ‏[‏في المقدار الذي لابد من بقائه بعد التخصيص‏]‏

اختلفوا في المقدار الذي لابد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب‏:‏

المذهب الأول‏:‏ أنه لابد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام وإليه ذهب الأكثر وحكاه الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي قال وإليه مال إمام الحرمين ونقله الرازي عن أبي الحسين البصري ونقله ابن برهان عن المعتزلة قال الأصفهاني ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد نعم اختاره الغزالي والرازي‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ أن العام إن كان مفردا كمن والألف واللام نحو اقتل من في الدار واقطع السارق جاز التخصيص إلى أقل المراتب وهو واحد لأن الاسم يصلح لهما جميعا وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف قاله القفال الشاشي وابن الصباغ قال الشيخ أبو إسحاق الإسفرائيني لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد فيما إذ لم تكن الصيغة جمعا كمن والألف واللام‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز إلى الواحد وإلا فلا يجوز قال الزركشي حكاه ابن المطهر وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي‏.‏

المذهب الرابع‏:‏ أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقا على حسب اختلافهم في أقل الجمع حكاه ابن برهان وغيره‏.‏

المذهب الخامس‏:‏ أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم حكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب الشافعي قال وهو الذي اختاره الشافعي ونقله ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحاب الشافعي ما عدا القفال وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني في أصول عن إجماع الشافعية وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أكثر الشافعية وصححه القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور‏.‏

المذهب السادس‏:‏ إن كان التخصيص بمتصل فإن كان بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد نحو أكرم الناس إلا الجهال وأكرم الناس إلا تميما وإن كان بالصفة أو الشرط فيجوز إلى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء أو إذا كانوا فضلاء وإن كان التخصيص بمنفصل وكان في العام المحصور القليل كقولك قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة أو أربعة ولم تقتل سوى اثنين جاز إلى اثنين وإن كان العام غير محصور أو كان محصورا كثيرا جاز بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام هكذا ذكره ابن الحاجب واختاره‏.‏

قال الأصفهاني في شرح المحصول ولا نعرفه لغيره احتج الأولون بأنه لو قال قائل قتلت كل من في المدينة ولم يقتل إلا ثلاثة عد لاغيا مخطئا في كلامه وهكذا لو قال أكرمت كل العلماء ولم يكرم إلا ثلاثة أو قتلت جميع بني تميم ولم يقتل إلا ثلاثة‏.‏

واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة بأن ذلك أقل الجمع على الخلاف المتقدم ويجاب بأن ذلك خارج عن محل النزاع فإن الكلام إنما هو في العام والجمع ليس بعام ولا تلازم بينهما‏.‏

واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد بأنه يجوز أن يقول أكرم الناس إلا الجهال وإن كان العالم واحدا ويجاب عنه بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجودا في الخارج ومثل هذه الصورة اتفاقية ولا يعتبر بها فالناس هاهنا ليس بعام بل هو للمعهود كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ فإن المراد بالناس المعهود وهو نعيم بن مسعود والمعهود ليس بعام استدلوا أيضا بأنه يجوز أن يقول القائل أكلت الخبز وشربت الماء والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز‏.‏

وأجيب عن ذلك بأنه غير محل النزاع فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود والذهني وهو الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب وهو مقدار معلوم والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام أنه لابد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولا للعام ولو في بعض الحالات وعلى بعض التقادير كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية والكلمات العربية ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد خص أو بكونه أقرب إلى مدلول العام فإنه هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر الأقرب هما مدلولا العام على التمام فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها ولا يصح أن يقال هاهنا إن الأكثر في حكم الكل لأن النزاع في مدلول اللفظ ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة أو المجاز ولو كان المخرج فردا واحدا وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد بكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام عرفت أيضا أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعا لأن النزاع في معنى العموم لا في معنى الجمع ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظا كمن وما والمعرف باللام وبين كونها غير مفردة فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ ‏[‏في حقيقة المخصص‏]‏

اختلفوا في المخصص على قولين حكاهما القاضي عبد الوهاب في الملخص وابن برهان في الوجيز‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إرادة المتكلم والدليل كاشف عن تلك الإرادة‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنه الدليل الذي وقع به التخصيص واختار الأول ابن برهان وفخر الدين الرازي في محصوله فإنه قال المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم لأنها المؤثرة ويطلق على الدال على الإرادة مجازا وقال أبو الحسين في المتعمد العام يصير عندنا خاصا بالأدلة ويصير خاصا في نفس الأمر بإرادة المتكلم والحق أن المخصص حقيقة هو المتكلم لكن لما كان المتكلم يخصص بالإرادة أسند التخصيص إلى إرادته فجعلت الإرادة مخصصة ثم جعل ما دل على إرادته وهو الدليل اللفظي أو غيره مخصصا في الاصطلاح والمراد هنا إنما هو الدليل فنقول المخصص للعام إما أن يستقل بنفسه فهو المنفصل وإما أن لا يستقل بل يتعلق معناه باللفظ إلى قبله فهو المتصل فالمنفصل سيأتي إن شاء الله وأما المتصل فقد جعله الجمهور أربعة أقسام الاستثناء المتصل والشرط والصفة والغاية وزاد القرافي وابن الحاجب بدل البعض من الكل وتابع الأصفهاني في ذلك قائلا أنه في نية طرح ما قبله قال القرافي وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر هذه الخمسة وسبعة أخرى وفي الحال وظرف الزمان وظرف المكان والمجرور مع الجار والتمييز والمفعول معه والمفعول لأجله فهذه اثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه ومتى اتصل بما يستقل بنفسه عموما كان أو غيره صار غير مستقل بنفسه‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ ‏[‏في جواز الاستثناء من الجنس‏]‏

لا خلاف في جواز الاستثناء من الجنس، كقام القوم إلا زيدا وهو المتصل ولا تخصيص إلا به وأما المنقطع فلا يخصص به نحو جاءني القوم إلا جارا فالمتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني وفي معنى هذا ما قيل إن المتصل ما كان الثاني جزءا من الأول والمنقطع ما لا يكون الثاني جزءا من الأول قال ابن السراج ولابد في المنقطع من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثني منه قال ابن مالك لابد فيه من تقدير الدخول في الأول كقولك قام القوم إلا جارا لما ذكر القوم تبادر الذهن إلى أتباعهم المألوفة فذكر الجار في الاستثناء لذلك هو فمستثنى تقديرا قال أبو بكر الصيرفي يجوز الاستثناء من غير الجنس ولكن يشترط أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما وإلا لم يجز كقوله‏:‏

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس

فاليعافير قد تؤانس فكأنه قال ليس بها من يؤانس به إلا هذا النوع وقد اختلف في الاستثناء المنقطع هل وقع في اللغة أم لا فقال الزركشي من أهل اللغة من أنكره وأوله تأويلا رده به إلى الجنس وحينئذ فلا خلاف في المعنى وقال العضد في شرحه لمختصر المنتهى لا نعرف خلافا في صحته لغة واختلفوا أيضا هل وقع في القرآن أم لا فأنكر بعضهم وقوعه فيه وقال ابن عطية لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي واختلفوا أيضا هل هو حقيقة أم مجاز على مذاهب‏.‏

المذهب الأول‏:‏ أنه حقيقة واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ونقله ابن الخباز عن ابن جني قال الإمام الرازي وهو ظاهر كلام النحويين وعلى هذا فإطلاق لفظ الاستثناء على المستثنى المنقطع هو بالاشتراك اللفظي‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ أنه مجاز وبه قال الجمهور قالوا لأنه ليس فيه معنى الاستثناء وليس في اللغة ما يدل على تسميته بذلك‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ أنه لا يسمى استثناء لا حقيقة ولا مجازا حكاه القاضي في التقريب والماوردي وقال الخلاف لفظي قال الزركشي بل هو معنوي فإن من جعله حقيقة جوز التخصيص به إلا فلا ثم بعد الاختلاف في كونه حقيقة أو مجازا اختلفوا في حده ولا يتعلق بذلك كبير فائدة فقد عرفت أنه لا يخصص به وبحثنا إنما هو في التخصيص ولا يخصص إلا بالمتصل فلنقتصر على الكلام المتعلق به‏.‏

المسألة السابعة‏:‏ ‏[‏حكم الاستثناء في لغة العرب‏]‏

قد قال قائل إن الاستثناء في لغة العرب متعذر؛ لأنه إذا قيل قام القوم إلا زيدا فلا يخلو إما أن يكون داخلا في العموم أو غير داخل قال والقسمان باطلان‏.‏

أما الأول‏:‏ فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة والإلزام توارد الإثبات والنفي على محل واحد وهو محال‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه وأجاب الجمهور عن هذا بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج أما إذا كان كذلك فلا توارد فإن المراد بقول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة إنما هو سبعة وإلا ثلاثة قرينة إرادة السبعة من العشرة إرادة الجزء باسم الكل كما في سائر المخصصات للعموم أورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج والعشرة نص في مدلولها والنص لا يتطرق إليه تخصيص وإنما التخصيص في الظاهر قال الزركشي وما قاله من الإجماع مردود فإن مذهب الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئا فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بالقيام ولا بنفيه‏.‏

قال بعض المحققين وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا يستقيم غيره لأن الله سبحانه قال‏:‏ ‏{‏فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏}‏ فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف وأجاب القاضي أبو بكر الباقلاني بأن قول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة بمنزلة سبعة من غير إخراج وأنهما كإسمين وضعا لمسمى واحد أحدهما مفرد والآخر مركب وجرى صاحب المحصول على هذا واختاره إمام الحرمين واستنكر قول الجمهور وقال إنه محال لا يعتقده لبيب قال ابن الحاجب وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد لأنا نقطع بأن دلالة الاستثناء بطريق الإخراج وأجاب آخرون بأن المستثنى منه مراد بتمامه ثم أخرج المستثنى ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا وإن كان قبله ذكرا فالمراد بقولك عشرة إلا ثلاثة عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة ثم أسند إلى الباقي تقديرا فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج‏.‏

قال ابن الحاجب وهو الصحيح ورجحه الصفي الهندي وجماعة من أهل الأصول والفرق بين هذا الجواب‏.‏

والجواب الذي قبله بأن الأفراد في هذا غير مرادة بكمالها وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها والاستثناء إنما هو لتفسير النسبة للدلالة على عدم المراد وأيضا الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة أن جواب الجمهور يدل على أن الثلاثة تخصيص وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص وعلى الثالث محتملة فقيل الأظهر أنها تخصيص وقيل ليست بتخصيص‏.‏

قال الماوردي أصل هذه الخلاف في الاسثناء من العدد هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة أو لم تغيره وإنما كشفت عن المراد بها فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها قال بالأول وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفى ومن لم يجعل أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة جعل الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه كما دل قوله لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله اقتلوا المشركين قال فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في سبعة مجازا دل عليه قوله إلا ثلاثة والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ثم حذفت منها ثلاثة ثم حكمت بالسبعة فكأنه قال له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة أو عشرة إلا ثلاثة له عندي وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ثم أخرج الثلاثة ثم حكم كما أنك تخرج عشرة دراهم في الكيس ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي وهي السبعة انتهى والظاهر ما ذهب إليه الجمهور لأن الإسناد إنما يتبين معناه بجميع أجزاء الكلام وعلى كل حال فالمسألة قليلة الفائدة لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب تقررا مقطوعا به لا يتيسر لمنكر أن ينكره وتقرر أن ما بعده آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف وليس النزاع إلا في صحة توجيه ما تقرر وقوعه وثبت استعماله وما ذكرناه في المقام يكفي في ذلك ويندفع به تشكيك من شك في هذا الأمر المقطوع به فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل عليها‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ ‏[‏شروط صحة الاستثناء‏]‏

يشترط في صحة الاستثناء شروط‏:‏

الأول‏:‏ الاتصال بالمستثنى منه لفظا بأن يكون الكلام واحدا غير منقطع ويحق به ما هو في حكم الاتصال وذلك بأن يقطعه لعذر كسعال أو عطاس أو نحوهما مما لا يعد فاصلا بين أجزاء الكلام فإن انفصل لا على هذا الوجه كان لغوا ولم يثبت حكمه‏.‏

قال في المحصول الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو أقيم مقامه والدليل على هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف وإما أن يكون لفظيا وهو إما أن يكون منفصلا فيكون مستقلا بالدلالة وإلا كان لغوا وهذا أيضا خارج عن الحد أو متصلا وهو إما التقييد بالشرط أو الصفة أو الغاية أو الاستثناء أما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال لا يتناول القصار بخلاف قولنا أكرم بني تميم إلا زيدا فإن الخارج وهو زيد تتناوله صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى المرافق‏}‏ بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه انتهى‏.‏

وقد ذهب إلى اشتراط الاتصال جمهور أهل العلم وروى عن ابن عباس أنه يصح الاستثناء وإن طال الزمان ثم اختلف عنه فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبدا وقد رد بعض أهل العلم وقالوا لم يصح عن ابن عباس ومنهم إمام الحرمين والغزالي لما يلزم من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق لإمكان تراخي المستثنى‏.‏

وقال القرافي المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة كمن حلف وقال إن شاء الله وليس هو في الإخراج بألا وأخواتها قال ونقل العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ قال المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد ذلك ولم يخصص انتهى ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس لعله لم يعلم بأنها ثابتة في مستدرك الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين بلفظ إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق كما ذكره أبو موسى المديني وغيره‏.‏

وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء بعد سنة ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات فالرواية عن ابن عباس قد صحت ولكن الصواب خلاف ما قاله ويدفعه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ولو كان الاستثناء جائزا على التراخي لم يوجب التكفير على التعيين ولقال فليستثن أو يكفر وأيضا هو قول يستلزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاءات لأن من وقع ذلك منه يمكن أن يقول من بعد قد استثنيت فيبطل حكم ما وقع منه وهو خلاف الإجماع وأيضا يستلزم أنه لا يصح صدق ولا كذب لجواز أن يرد على ذلك الاستثناء فيصرفه عن ظاهره‏.‏

وقد احتج لما قاله ابن عباس بما أخرجه أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لأغزون قريشا» ثم سكت ثم قال‏:‏ «إن شاء الله» وليس في هذا ما تقوم به الحجة لأن ذلك السكوت يمكن أن يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام وأيضا غاية ما فيه أنه يجوز له أن يستثني في اليمين بعد سكوته وقتا يسيرا ولا دليل على الزيادة على ذلك وقول ابن عباس إنه إذا قال شيئا ولم يستثن فله أن يستثني عند الذكر قال وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه انتهى وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه ويروى عن سعيد بن جبير أنه يجوز الاستثناء ولو بعد يوم أو أسبوع أو سنة وعن طاوس يجوز ما دام في المجلس وعن عطاء يجوز له أن يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة وروى عن مجاهد أنه يجوز إلى سنتين‏.‏

واعلم أن الاسثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر قد دلت عليه الأدلة الصحيحة منها حديث لأغزون قريشا المتقدم ومنها ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولا يعضد شجرها ولا يختلي خلاها» فقال العباس إلا الأذخر فإن لقينهم وبيوتهم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إلا الأذخر» ومنها ما ثبت في الصحيح أيضا في حديث سليمان لما قال‏:‏ «لأطوفن الليلة» ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية «إلا سهيل بن بيضاء»‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يكون الاستثناء غير مستغرق فإن كان مستغرقا فهو باطل بالإجماع كما حكاه جماعة من المحققين منهم الرازي في المحصول فقال أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ومنهم ابن الحاجب فقال في مختصر المنتهى الاستثناء المستغرق باطل بالاتفاق واتفقوا أيضا على جواز الاستثناء إذا كان المستثنى أقل مما بقي من المستثنى منه‏.‏

واختلفوا إذا كان أكثر مما بقي منه فمنع ذلك قوم من النحاة منهم الزجاج وقال لم ترد به اللغة ولأن الشيء إذا نقص يسيرا لم يزل عنه اسم ذلك الشيء فلو استثنى أكثر لزال الاسم قال ابن جني لو قال له عندي مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلما بالعربية وكان عبثا من القول‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب المسائل إن ذلك يعني استثناء الأكثر لا يجوز في اللغة لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير أغفلته أو نسيته لقلته ثم تداركته بالاستثناء ثم ذكر مثل كلام الزجاج قال الشيخ أبو حامد أنه مذهب البصريين من النحاة وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم‏.‏

وأجازه أكثر الأصوليين نحو عندي له عشرة إلا تسعة فيلزمه درهم وهو قول السيرافي وأبي عبيدة من النحاة محتجين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ والمتبعون له هم الأكثر بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرب عز وجل «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم» وقد أطعم سبحانه وكسا الأكثر من عباده بلا شك‏.‏

وقد أجيب عن هذا الدليل بأنه استثناء منقطع ولا وجه لذلك ومن جملة المانعين من استثناء الأكثر أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وابن درستويه من النحاة وهو أحد قولي الشافعي والحق أنه لا وجه للمنع لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع ولا من جهة العقل وأما جواز استثناء المساوي فبالأولى وإليه ذهب الجمهور وهو واقع في اللغة وفي الكتاب العزيز نحو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا‏}‏‏.‏

وقد نقل القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والمازري والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح استثناء المساوي ولا وجه لذلك ومن المانعين استثناء المساوي ابن قتيبة فإنه قال القليل الذي يجوز استثناؤه هو الثلث فما دونه‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يلي الكلام بلا عاطف فأما إذا وليه حرف العطف نحو عندي له عشرة دراهم وإلا درهما أو فإلا درهما كان لغوا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني بالاتفاق‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن لا يكون الاستثناء من شيء معين مشار إليه كما لو أشار إلى عشرة دراهم فقال إن هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا فقال إمام الحرمين في النهاية أن ذلك لا يصح لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار الملك المطلق فيها فإذا أراد الاستثناء في البعض كان رجوعا عن الإقرار انتهى والحق جوازه ولا مانع منه ومجرد الإقرار في ابتداء الكلام موقوف على انتهاثه من غير فرق بين مشار إليه وغير مشار إليه‏.‏

المسألة التاسعة‏:‏ ‏[‏في حكم الاستثناء من الإثبات ومن النفي‏]‏

اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي، وأما الاستثناء من النفي فذهب الجمهور إلى أنه إثبات وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة وهي عدم الحكم قالوا فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات‏.‏

واختلف كلام فخر الدين الرازي فوافق الجمهور في المحصول واختار مذهب الحنفية في تفسيره والحق ما ذهب إليه الجمهور ودعوى الواسطة مردودة على أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازما في الاستثناء من الإثبات واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وأيضا نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ويرد عليه ولو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لم تكن كلمة التوحيد توحيدا فإن قولنا لا إله إلا الله هو استثناء من نفي وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»‏.‏

وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك ثنيت الشيء إذا صرفته عن وجه فإذا قلت لا عالم إلا زيد فهاهنا أمران أحدهما هذا الحكم والثاني نفس العلم فقولك إلا زيد يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم فيبقى المستثنى مسكوتا عنه غير محكوم عليه بنفي في ولا إثبات ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثاني وحينئذ يلزم تحقق الثبوت لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة لكون عود الاستثناء إلى الأول أولى إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية لا على الأعيان الخارجية فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى وحكى عنهم الرازي في المحصول أنهم احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور» ولا يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين هكذا حكى عنهم المحصول ولم يتعرض للرد عليهم ويجاب عن الأول بمنع ما قالوه ولو سلم أنه لا يستفاد الإثبات من الوضع اللغوي لكان مستفادا من الوضع الشرعي وعن الثاني بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع الشرعي فلابد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة وإن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى غير المعنى الذي مع عدمها فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله لأن لم نقل لا نكاح إلا الولي ولا صلاة إلا الطهور بل قلنا إلا بولي وإلا بطهور فلابد من تقدير متعلق هو المستثنى منه فيكون التقدير لا نكاح يثبت بوجه إلا مقترنا بولي أو نحو ذلك من التقديرات‏.‏

قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة يعني كلمة الشهادة وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم منهم بذلك والقبول له من غير زيادة ولا احتياج إلى أمر آخر ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه لأنه المقصود الأعظم‏.‏

المسألة العاشرة‏:‏ ‏[‏في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة‏]‏

اختلفوا في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة هل يعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة، كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إلا من تاب‏}‏ فذهب الشافعي وأصحابه إلى أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل وقد نسب ابن القصار هذا المذهب إلى مالك قال الزركشي وهو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك ونسبه صاحب المصادر إلى القاضي عبد الجبار وحكاه القاضي أبو بكر عن الحنابلة قال ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه» قال أرجو أن يكون الاستثناء على كله وذهب أبو حنيفة وجمهور أصحابه إلى عوده إلى الجملة الأخيرة إلا أن يقوم دليل على التعميم واختاره الفخر الرازي‏.‏

وقال الأصفهاني في القواعد أنه الأشبه ونقله صاحب المعتمد عن الظاهرية وحكى عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي وإليه ذهب أبو علي الفارسي كما حكاه عنه إلكيا الطبري وابن برهان وذهب جماعة إلى الوقف حكاه صاحب المحصول عن القاضي أبي بكر والمرتضى من الشيعة قال سليم الرازي في التقريب وهو مذهب الأشعرية واختاره إمام الحرمين الجويني والغزالي وفخر الدين الرازي قال في المحصول بعد حكاية الوقف عن أبي بكر والمرتضى إلا أن المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك ومنهم من فصل القول فيه وذكروا وجوها وأدخلها في التحقيق ما قيل أن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو من نوعين فإن كان الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون كذلك فإن كان الثاني فإما أن تكونا مختلفتي الاسم والحكم أو متفقتي الاسم مختلفتي الحكم أو مختلفتي الاسم متفقتي الحكم‏.‏

فالأول‏:‏ كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلى الطوال والأظهر هاهنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه الأولى فلو كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل لم يكن قد تم غرضه ومقصوده من الجملة الأولى‏.‏

والثاني‏:‏ كقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال‏.‏

والثالث‏:‏ كقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال والحكم أيضا هاهنا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة فالظاهر أنه لم ينتقل إلى أخراهما إلا وقد تم غرضه من الأولى بالكلية وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى مضمرا في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر إلا الطوال أو اسم الأولى مضمرا في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال فالاستثناء راجع إلى الجملتين لأن الثانية لا تستقل كلاما إلا مع الأولى فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما أن تكون القصة واحدة أو مختلفة فإن كانت مختلفة فهو كقولنا أكرم ربيعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية فالاستثناء راجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها وأما إن كانت القصة واحدة فكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ الآية فالقصة واحدة وأنواع الكلام مختلفة فالجملة الأولى أمر والثانية نهي والثالثة خبر فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها وأما إن كانت القصة واحدة حق لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف لا بمعنى الاشتراك بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا وهذا هو اختيار القاضي انتهى‏.‏

قال ابن فارس في كتاب فقه اللغة العربية إن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة وإن دل على منعه امتنع فآية القذف انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين واستدل أهل المذهب الأول بأن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة قالوا بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعا‏.‏

وأجيب أيضا عن القياس على الشرط بالفرق بينهما وذلك بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر ويجاب عن الأول بأن الجمل المتعاطفة لها حكم المفردات ودعوى اختصاص ذلك بالمفردات لا دليل عليها وعن الثاني بأنه يمنع مثل هذا الفرق لأن الاستثناء يفيد مفاد الشرط في المعنى واستدل أهل المذهب الثاني بأن رجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل‏.‏

ويجاب عنه بمنع دعوى الظهور والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن القيد الواقع بعد جمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها لا من نفس اللفظ ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جمعها وإن منع مانع فله حكمه ولا يخالف هذا ما حكوه عن عبد الجبار وجعلوه مذهبا رابعا من أن الجمل إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد انصرف إلى الجميع وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة فإن كونها مسوقة لأغراض مختلفة هو مانع من الرجوع إلى الجميع وكذا لا ينافي هذا ما جعلوه مذهبا خامسا وهو أنه إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة فإنه يختص بالأخيرة لأن كون الواو للابتداء هو مانع من الرجوع إلى الجميع وكذلك لا ينافي هذا ما حكوه مذهبا سادسا من كون الجملة الثانية إن كانت إعراضا وإضرابا عن الأولى اختص بالأخيرة لأن الإعراض والإضراب مانع من الرجوع إلى الجميع وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وساقوا من أدلة المذاهب ما لا طائل تحته فإن بعضها احتجاج بقصة خاصة في الكتاب أو السنة قد قام الدليل على اختصاصها بما اختصت به وبعضها يستلزم القياس في اللغة وهو ممنوع‏.‏

المسألة الحادية عشرة‏:‏ إذا وقع بعد المستثنى والمستثنى منه جملة تصلح أن تكون صفة لكل واحد منهما

فعند الشافعية أن تلك الجملة ترجع إلى المستثنى منه وعند الحنفية إلى المستثنى فإذا قال عندي له ألف درهم إلا مائة قضيت ذلك فعند الشافعية أنه يكون هذا الوصف راجعا إلى المستثنى منه فيكون مقرا بتسعمائة مدعيا لقضائها فإن برهن على دعواه فذلك وإلا فعليه ما أقر به وعند الحنفية يرجع الوصف إلى المستثنى فيكون مقرا بألف مدعيا لقضاء مائة منه وهكذا إذا جاء بعد الجمل ضمير يصلح لكل واحدة منها نحو أكرم بني هاشم وأكرم بني المطلب وجالسهم أما إذا كان الضمير أو الوصف لا يصلح إلا لبعض الجمل دون بعض كان للتي يصلح لها دون غيرها نحو أكرم القوم وأكرم زيدا العالم وأكرم القوم وأكرم زيدا وعظمه‏.‏

المسألة الثانية عشرة‏:‏ التخصيص بالشرط

وحقيقته في اللغة العلامة‏.‏

كذا قيل واعترض عليه بما في الصحاح وغيره من كتب اللغة بأن الذي بمعنى العلامة هو الشرط بالتحريك وجمعه أشراط ومنه أشراط الساعة أي علاماتها وأما الشرط بالسكون فجمعه شروط هذا جمع الكثرة فيه ويقال في جمع القلة منه أشرط كفلوس وأفلس وأما حقيقة في الاصطلاح فقال الغزالي الشرط ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عنده واعترض عليه بأنه يستلزم الدور لأنه عرف الشرط بالمشروط وهو مشتق منه فيتوقف على تعلقه وبأنه غير مطرد لأن جزء السبب كذلك فإنه لا يوجد السبب بدونه ولا يلزم أن يوجد عنده وليس بشرط وأجيب عن الأول بأن ذلك بمثابة قولنا شرط الشيء ما لا يوجد ذلك الشيء بدونه وظاهر أن تصور حقيقة المشروط غير محتاج إليه في تعقل ذلك وعن الثاني بأن جزء السبب قد يوجد المسبب بدونه إذا وجد سبب آخر‏.‏

وقال في المحصول إن الشرط هو الذي يتوقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته وقال ولا ترد عليه العلة لأنها نفس المؤثر والشيء لا يتوقف على نفسه ولا جزء العلة ولا شرط العلة لأن العلة تتوقف عليه في ذاتها انتهى واعترض عليه بأنه غير منعكس لأن الحياة شرط في العلم القديم ولا يتصور هاهنا تأثير ومؤثر إذ المحوج إلى المؤثر هو الحدوث وقيل الشرط ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر لا على جهة السببية فيخرج السبب وجزؤه ورد بأن الفرق بين السبب والشرط يتوقف على فهم المعنى المميز بينهما ففيه تعريف الشيء بمثله في الخفاء وقيل هو ما استلزم عدمه عدم أمر مغاير وهو كالذي قبله وأحسن ما قيل في حده أنه ما يتوقف عليه الوجود ولا دخل له في التأثير والإفضاء فيخرج جزء السبب لأنه وإن توقف عليه السبب لكن له دخل في الإفضاء إليه ويخرج سبب الشيء بالنسبة إليه بالطريق الأولى وتخرج العلة لأنها وإن توقف عليها الوجود فهي مع ذلك مؤثرة‏.‏

‏[‏أقسام الشرط‏]‏

والشرط ينقسم إلى أربعة أقسام عقلي وشرعي ولغوي وعادي فالعقلي كالحياة للعلم فإن العقل هو الذي يحكم بأن العلم لا يوجد إلا بحياة فقد توقف وجوده على وجودها عقلا والشرعي كالطهارة للصلاة فإن الشرع هو الحاكم بأن الصلاة لا توجد إلا بطهارة فقط توقف وجود الصلاة على وجود الطهارة شرعا واللغوي كالتعليقات نحو أن ما دخلت عليه أداة الشرط هو الشرط والمعلق عليه هو الجزاء ويستعمل الشرط اللغوي في السبب الجعلي كما قال إن دخلت الدار فأنت طالق والمراد أن الدخول سبب للطلاق يستلزم وجوده وجوده لا مجرد كون عدمه مستلزما لعدمه من غير سببيته‏.‏

وبهذا صرح الغزالي والقرافي وابن الحاجب وشراح كتابه ويدل على هذا القول النحاة في الشرط والجزاء بأن الأول سبب والثاني مسبب والشرط العادي كالسلم لصعود السطح فإن العادة قاضية بأن لا يوجد الصعود إلا بوجود السلم أو نحوه مما يقوم مقامه ثم الشرط قد يتحد وقد يتعدد ومع التعدد قد يكون كل واحد شرطا مستقلا فيحصل المشروط بحصول واحد منها فإذا قال إن دخلت الدار وأكلت وشربت فأنت طالق لم تطلق إلا بالدخول والأكل والشرب وإن قال إن دخلت أو أكلت أو شربت فأنت طالق طلقت بواحدة منها واعلم أن الشرط كالاستثناء في اشتراط الاتصال وفي تعقبه لجمل متعددة‏.‏

قال الرازي في المحصول اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع حكمه إليها بالكلية فاتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي على رجوعه إلى الكل وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه حتى إنه إذا كان متأخرا اختص بالجملة الأخيرة وإن كان متقدما اختص بالجملة الأولى والمختار التوقف كما تقدم في مسألة الاستثناء ثم قال اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء واتفقوا على أنه يجوز التقييد بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي وإن اختلفوا فيه على الاستثناء انتهى فقد حكى الاتفاق في هاتين الصورتين كما تراه‏.‏

المسألة الثالثة عشرة‏:‏ التخصيص بالصفة

وهي كالاستثناء إذا وقعت بعد متعددوالمراد بالصفة هنا هي المعنوية على ما حققه علماء البيان لا مجرد النعت المذكور في علم النحو‏.‏

قال إمام الحرمين الجويني في النهاية الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص فإذا قلت رجل شاع هذا في الرجال فإذا قلت طويل اقتضى ذلك تخصيصا فلا تزال تزيد وصفا فيزداد الموصوف اختصاصا وكلما كثر الوصف قل الموصوف‏.‏

قال المازري ولا خلاف في اتصال التوابع وهي النعت والتوكيد والعطف والبدل وإنما الخلاف في الاستثناء‏.‏

وقال الرازي في المحصول‏:‏ الصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شيء واحد كقولنا رقبة مؤمنة ولا شك في عودها إليها أو عقيب شيئين وهاهنا فإما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر كقولك أكرم العرب والعجم المؤمنين فهاهنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة وإن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء والشرط انتهى‏.‏

قال الصفي الهندي إن كانت الصفات كثيرة وذكرت على الجمع عقب جملة تقيدت بها أو على البدل فلواحدة غير معينة منها وإن ذكرت عقيب جمل ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة خلاف انتهى وأما إذا توسطت الصفة بين جمل ففي عودها إلى الأخيرة خلاف كذا قيل ولا وجه للخلاف في ذلك فإن الصفة تكون لما قبلها لا لما بعدها لجواز تقدم الصفة على الموصوف‏.‏

المسألة الرابعة عشرة‏:‏ التخصيص لغاية

وهي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها ولها لفظان وهما حتى وإلى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ قال الرازي في المحصول التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بالخلاف لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم تكن الغاية مقطعا فلم تكن الغاية غاية قال ويجوز اجتماع الغايتين كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن فهاهنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة عبر عن الأولى بالغاية مجازا لقربها منها واتصالها بها قال الزركشي ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين لأن التحريم الناشىء عن دم الحيض غاية انقطاع الدم فإذا انقطع حدث تحريم آخر ناشيء عن دم الغسل والغاية الثانية غاية هذا التحريم وقد أطلق الأصوليون كون الغاية من المخصصات ولم يقيدوا ذلك وقيد ذلك بعض المتأخرين بالغاية التي تقدمها لفظ يشملها لو لم يؤت بها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية‏}‏ فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا المشركين أعطوا الجزية أو لم يعطوها واختلفوا في الغاية نفسها هل تدخل في المغيا كقولك أكلت حتى قمت هل يكون القيام محلا للأكل أم لا وفي ذلك مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ أنها تدخل فيما قبلها‏.‏

والثاني‏:‏ لا تدخل وبه قال الجمهور كما حكاه في البرهان‏.‏

والثالث‏:‏ إن كانت من جنسه دخلت وإلا فلا وحكاه أبو إسحاق المروزي عن المبرد‏.‏

والرابع‏:‏ إن تميزت عما قبلها بالحس نحو أتموا الصيام إلى الليل لم تدخل وإن لم تتميز بالحس مثل وأيديكم إلى المرافق دخلت الغاية وهي المرافق ورجح هذا الفخر الرازي‏.‏

والخامس‏:‏ إن اقترنت بمن لم يدخل نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة لم تدخل وإن لم تقترن جاز أن تكون تحديدا وأن تكون بمعنى مع وحكاه إمام الحرمين في البرهان عن سيبويه وأنكره عليه ابن خروف وقال لم يذكر سيبويه حرفا منهما ولا هو مذهبه‏.‏

والسادس‏:‏ الوقف واختاره الآمدي وهذه المذاهب في غاية الانتهاء وأما غاية الابتداء ففيها مذهبان الدخول وعدمه وجعل الأصفهاني الخلاف في الغايتين غاية الابتداء وغاية الانتهاء على السواء فقال وفيها مذاهب تدخلان ولا تدخلان وتدخل غاية الابتداء دون الانتهاء وتدخلان أن اتحد الجنس لا أن اختلف وتدخلان إن لم يتميز ما بعدهما عما قبلهما بالحس وإلا لم تدخلا فيما قبلهما وفيه نظر بل الظاهر أن الأقوال المتقدمة هي في غاية الانتهاء لا في غاية الابتداء وأظهر الأقوال وأوضحها عدم الدخول إلا بدليل من غير فرق بين غاية الابتداء والانتهاء والكلام في الغاية الواقعة بعد متعدد كما تقدم في الاستثناء‏.‏

المسألة الخامسة عشرة‏:‏ التخصيص بالبدل

أعني بدل البعض من الكل نحو أكلت الرغيف ثلثه وأكرم القوم علماءهم ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثم عموا وصموا كثير منهم‏}‏ وقد جعله من المخصصات جماعة من أهل الأصول منهم ابن الحاجب وشراح كتابه قال السبكي ولم يذكره الأكثرون لأن المبدل منه في نية الطرح فلا تحقق فيه لمحل يخرج منه فلا تخصيص به وفيه نظر لأن الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر بل هو للتمهيد والتوطئة وليفاد بمجموعها فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد قال السيرافي زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول وهو المبدل منه ولا يريدون إلغاءه وإما مرادهم أن البدل قائم بنفسه وليس تبيينه الأول كتبيين النعت الذي هو من تمام المنعوت وهو معه كالشيء الواحد انتهى‏.‏

ولا يشترط فيه ما يشترط في الاستثناء من بقاء الأكثر عند من اعتبر ذلك بل يجوز إخراج الأكثر وفاقا نحو أكلت الرغيف ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ويلحق ببدل البعض بدل الاشتمال لأن كل واحد منهما فيه بيان وتخصيص‏.‏

المسألة السادسة عشرة‏:‏ التخصيص بالحال

وهو في المعنى كالصفة لأن قولك أكرم من جاءك راكبا يفيد تخصيص الإكرام بمن تثبت له صفة الركوب وإذا جاء بعد جمل فإنه يكون للجميع قال البيضاوي بالاتفاق نحو أكرم بني تميم وأعط بني هاشم نازلين بك وفي دعوى الاتفاق نظر فإنه ذكر الفخر الرازي في المحصول أنه يختص بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة أو بالكل على قول الشافعي‏.‏

المسألة السابعة عشرة‏:‏ التخصيص بالظروف والجار والمجرور

نحو أكرم زيدا اليوم أو في مكان كذا وإذا تعقب أحدهما جملا كان عائدا إلى الجميع وقد ادعى البيضاوي الاتفاق على ذلك كما ادعاه في الحال ويعترض عليه بما في المحصول فإنه قال في الظرف والجار والمجرور إنهما يختصان بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة أو بالكل على قول الشافعي كما قال في الحال صرح بذلك في مسألة الاستثناء المذكور عقب جمل ويؤيد ما قاله البيضاوي ما قاله أبو البركات ابن تيمية فإنه قال فأما الجار والمجرور فإنه ينبغي أن يتعلق بالجميع قولا واحدا وأما لو توسط فقد ذكر ابن الحاجب في مسألة لا يقتل مسلم بكافر أن قولنا ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني‏.‏

المسألة الثامنة عشرة‏:‏ التخصيص بالتمييز

نحو عندي له رطل ذهبا وعندي له عشرون درهما فإن الإقرار يتقيد بما وقع به التمييز من الأجناس أو الأنواع وإذا جاء بعد جمل نحو عندي له رطل ذهبا أو ملء هذا فإنه يعود إلىالجميع وظاهر كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق‏.‏

المسألة التاسعة عشرة‏:‏ المفعول له والمفعول معه

فإن كل واحد منهما يقيد الفعل بما تضمنه من المعنى‏.‏

فإن المفعول له معناه التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الفعل نحو ضربته تأديبا فيفيد تخصيص ذلك الفعل بتلك العلة والمفعول معه معناه تقييد الفعل بتلك المعية نحو ضربته وزيدا فيفيد أن ذلك الضرب الواقع على المفعول به مختص بتلك الحالة التي هي المصاحبة بين ضربه وضرب زيد‏.‏

المسألة الموفية عشرين‏:‏ التخصيص بالعقل

فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة وهذا شروع في المخصصات المنفصلة وقد حصروها في ثلاثة أقسام‏:‏ العقل والحس والدليل السمعي قال القرافي والحصر غير ثابت فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك رأيت الناس فما رأيت أفضل من زيد فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس وكذا التخصيص بقرائن الأحوال كقولك لغلامك ائتني بمن يخدمني فإن المراد الإتيان بمن يصلح لذلك ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة يجعل التخصيص بالقياس مندرجا تحت الدليل السمعي وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل فذهب الجمهور إلى التخصيص به وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به‏.‏

قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التخصيص بالعقل قد يكون بضرورته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ فإن تخصيص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ إما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فيلزم من ذلك صدق النقيضين وهو محال أو يرجع النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا‏؟‏

فنقول إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والنقل قد يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة فالعقل قد يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة مخصصة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ انتهى قال القاضي أبو بكر الباقلاني وصورة المسألة أن صيغة العام إذا وردت واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد به ما قدمناه أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها‏.‏

وفصل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه فيجوز التخصيص به نحو‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ فقلنا المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك انتهى ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية أما الصورة الأولى فلا خلاف أن الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة‏.‏

قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وابن القشيري والغزالي وإلكيا الطبري وغيرهم إن النزاع لفظي إذ مقتضى ما يدل عليه العقل ثابت إجماعا لكن الخلاف في تسميته تخصيصا فالخصم لا يسميه لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص وهو الإرادة لا العقل وكذا قال الأستاذ أبو منصور إنهم احتجوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم‏.‏

واختلفوا في تسميته تخصيصا وقيل الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين فمن منع من تخصيص العقل فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ولا يقبح وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل وقد أنكر هذا الأصفهاني وهو حقيق بأن يكون منكرا فالكلام في تلك المسألة غير الكلام في هذه المسألة كما سبق تقريره وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها راجعة إلى اللفظ لا إلى المعنى وقد عرفت أن الخلاف لفظي فلا نطيل بذكرها‏.‏

قال الرازي في المحصول فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به‏؟‏ قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه عنه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل انتهى وأجاب غيره بأن النسخ إما بيان مدة الحكم وإما رفع الحكم على التفسيرين وكلاهما محجوب عن نظر العقل بخلاف التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة وليس التخصيص بالعقل من التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل العقل على دليل الشرع بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه المانع قطعي وهو دليل العقل‏.‏

المسألة الحادية والعشرون‏:‏ التخصيص بالحس

فإذا ورد الشرع بعموم يشهد الحس باختصاصه ببعض ما اشتمل عليه العموم كان ذلك مخصصا للعموم قالوا ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوتيت من كل شيء‏}‏ ‏{‏بأمر ربها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏ قال الزركشي وفي عد هذا نظر لأنه من العام الذي أريد به الخصوص وهو خصوص ما أوتيته هذه ودمرته الريح لا من العام المخصوص قال ولم يحكوا الخلاف السابق في التخصيص بالعقل وينبغي طرده ونازع العبدري في تفريقهم بين دليل الحس ودليل العقل لأن أصل العلوم كلها الحس ولا يخفاك أن ما ذكره الزركشي في دليل الحس يلزمه مثله في دليل العقل فيقال له إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ من العام الذي أريد به الخصوص لا من العام المخصوص وإلا فما الفرق بين شهادة العقل وشهادة الحس‏.‏

المسألة الثانية والعشرون‏:‏ التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما

ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب وذهب بعض الظاهرية إلى عدم جوازه وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ ولا يكون إلا بالسنة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ يجاب عنه بأن كونه صلى الله عليه وسلم مبينا لا يستلزم أن لا يحصل بيان الكتاب بالكتاب وقد وقع ذلك الوقوع دليل الجواز فإن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ يعم الحوامل وغيرهن فخص أولات الأحمال بقوله‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ وخص منه أيضا المطلقة قبل الدخول بقوله‏:‏ ‏{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏ وهكذا قد خصص عموم قوله‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ومثل هذا كثير في الكتاب العزيز وأيضا ذلك الدليل الذي ذكروه معارض بما هو أوضح منه دلالة وهو قوله‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏}‏‏.‏

وقد جعل ابن الحاجب في مختصر المنتهى الخلاف في هذه المسألة لأبي حنيفة وأبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وحكى عنهم أن الخاص إن كان متأخرا وإلا فالعام ناسخ وهذه مسألة أخرى سيأتي الكلام فيها ولا اختصاص لها بتخصيص الكتاب بالكتاب وكما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب فكذلك يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب عند جمهور أهل العلم وعن أحمد بن حنبل روايتان وعن بعض أصحاب الشافعي المنع قال ابن برهان وهو قول بعض المتكلمين قال مكحول ويحيى بن كثير السنة تقضي على الكتاب والكتاب لا يقضي على السنة ولا وجه للمنع فإن استدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ فقد عرفت عدم دلالته على المطلوب مع كونه معارضا بما هو أوضح دلالة منه كما تقدم ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة المتواترة إجماعا كذا قال الأستاذ أبو منصور وقال الآمدي لا أعرف فيه خلافا‏.‏

وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني لا خلاف في ذلك إلا ما يحكى عن داود في إحدى الروايتين قال ابن كج لا شك في الجواز لأن الخبر المتواتر يوجب العلم كما أن ظاهر الكتاب يوجبه وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها ويجوز تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو مجمع عليه إلا أنه حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن داود أنهما يتعارضان ولا يبني أحدهما على الآخر ولا وجه لذلك واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقا وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقا وحكاه الغزالي في المنخول عن المعتزلة ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق وذهب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي متصلا كان أو منفصلا كذا حكاه صاحب المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى عنه وقد سبق إلى حكاية ذلك عنه إمام الحرمين الجويني في التلخيص وحكى غير هؤلاء عنه أنه يجوز تخصيص العام بالخبر الأحادي إذا كان قد دخله التخصيص من غير تقييد لذلك بكون المخصص الأول قطعيا وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل سواء كان قطعيا أو ظنيا وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز‏.‏

وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف وحكي عنه أنه قال يجوز التعبد بوروده ويجوز أن يرد لكنه لم يقع وحكى عنه أيضا أنه لم يرد بل ورد المنع ولكن الذي اختاره لنفسه هو الوقف كما حكى ذلك عنه الرازي في المحصول واستدل في المحصول على ما ذهب إليه الجمهور بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم فوجب تقديمه على العموم‏.‏

واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنا معشر الأنبياء لا نورث» وخصوا التوارث بالمسلمين عملا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يرث المسلم الكافر» وخصوا قوله‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏ بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وغير ذلك كثير وأيضا يدل على جواز التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تقييد فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبا وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية وقد استدل المانعون مطلقا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح فقال عمر «كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة» يعني قوله‏:‏ ‏{‏أسكنوهن‏}‏‏.‏

وأجيب عن ذلك بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي بل قال كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة‏؟‏ ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا قول امرأة لعلها حفظت أو نسيت فأفاد هذا أن عمر رضي الله عنه إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ولو علم بأنها حفظت ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته‏.‏

قال ابن السمعاني إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها أما ما أجمعوا عليه كقوله‏:‏ «لا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث» فيجوز تخصيص العموم به قطعا ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز تخصيصه بالقراءة الشاذة عند من نزلها منزلة الخبر الآحادي وقد سبق الكلام في القرآن في مباحث الكتاب‏.‏

وهكذا يجوز التخصيص لعموم الكتاب وعموم المتواتر من السنة بما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم إذا لم يدل دليل على اختصاصه به كما يجوز بالقول وهكذا يجوز التخصيص بتقريره صلى الله عليه وسلم وقد تقدم البحث في فعله صلى الله عليه وسلم وفي تقريره في مقصد السنة بما يغني عن الإعادة وأما التخصيص بموافق العام فقد سبق الكلام عليه في باب العموم وكذلك سبق الكلام على العام إذا عطف عليه ما يقتضي الخصوص وعلى العام الوارد على سبب خاص فهذه المباحث لها تعلق بالعام وتعلق بالخاص‏.‏

المسألة الثالثة والعشرون‏:‏ في التخصيص بالقياس

ذهب الجمهور إلى جوازه قال الرازي في المحصول وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرا وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن هؤلاء وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل وحكاه ابن الهمام في التحرير وحكى القاضي عبد الجبار عن الحنابلة عن أحمد روايتين وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي عن ابن سريج وذهب أبو علي الجبائي إلى المنع مطلقا ونقله الشيخ أبو حامد وسليم الرازي عن أحمد بن حنبل وقيل إن ذلك إنما هو في رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني عن طائفة من المتكلمين وعن الأشعري وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يجوز إن كان العام قد خصص قبل ذلك بنص قطعي كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر في التقريب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأطلق صاحب المحصول الحكاية عنه ولم يقيدها بكون النص قطعيا وحكى هذا المذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعض العراقيين وذهب الكرخي إلى أنه يجوز إن كان قد خص بدليل منفصل وإلا فلا كذا حكاه عنه صاحب المحصول وغيره‏.‏

وذهب الاصطخري إلى أنه يجوز إن كان القياس جليا وإلا فلا كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي وحكاه الشيخ أبو حامد عن إسماعيل بن مروان من أصحاب الشافعي وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي ومبارك بن أبان وأبي علي الطبري وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن ابن سريج والصحيح عنه ما تقدم‏.‏

وذهب الغزالي إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فإن تعادلا فالوقف واختاره المطرزي ورجحه الفخر الرازي واستحسنه القرافي والقرطبي وذهب الآمدي إلى أن العلة إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها جاز التخصيص به وإلا فلا وقد حكى إمام الحرمين في النهاية مذهبين لم ينسبهما إلى من قالهما‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجا من ذلك العام وإلا فلا وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني القياس إن كان جليا مثل ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ جاز التخصيص به الإجماع وإن كان واضحا وهو المشتمل على جميع معنى الأصل كقياس الربا فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا إلا طائفة شذت لا يعتبر بقولهم وإن كان خفيا وهو قياس علته الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به ومنهم من شذ فجوزه‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور والأستاذ أبو إسحاق أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي واختلفوا في الخفي على وجهين والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضا وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع واحتج الجمهور بأن العموم والقياس دليلان متعارضين والقياس خاص فوجب تقديمه وبهذا يعرف أنه لا ينتهض احتجاج المانعين بقولهم لو قدم القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى وأنه باطل لأن هذا التقديم إنما يكون عند إبطال أحدهما بالآخر فأما عند الجمع بينهما وإعمالهما جميعا فلا‏.‏

وقد طول أهل الأصول الكلام في هذا البحث بإيراد شبه زائفة لا طائل تحتها وسيأتي تحقيق الحق إن شاء الله تعالى في باب القياس فمن منع من العمل به مطلقا منع من التخصيص به ومن منع من بعض أنواعه دون بعض منع من التخصيص بذلك البعض ومن قبله مطلقا والتفاصيل المذكورة هاهنا من جهة القابلين له مطلقا إنما هي باعتبار كونه وقع هنا مقابلا لدلالة العموم والحق الحقيق بالقبول أنه يخصص بالقياس الجلي لأنه معمول به لقوة دلالته وبلوغها إلى حد يوازن النصوص وكذا يخصص بما كانت علته منصوصة أو مجمعا عليها أما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النص وأما العلة المجمع عليها فلكون ذلك الإجماع قد دل على دليل مجمع عليه وما عدا هذه الثلاثة الأنواع من القياس فلم تقم الحجة بالعمل به من أصله وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا في القياس على وجه يتضح به الحق اتضاحا لا يبقى عنده ريب لمرتاب‏.‏

المسألة الرابعة والعشرون‏:‏ في التخصيص بالمفهوم

ذهب القائلون بالعمل بالمفهوم إلى جواز التخصيص بالمفهوم قال الآمدي لا أعرف خلافا في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم وسيأتي الكلام على المفاهيم والمعمول به منها وغير المعمول به وقد تقدم الكلام على التخصيص بمفهوم اللقب‏.‏

وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الحنفية وابن سريج المنع من التخصيص بالمفهوم وذلك مبني على مذهبهم في عدم العمل بالمفهوم قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام قد رأيت في بعض مصنفات المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم وفي كلام صفي الدين الهندي أن الخلاف إنما هو في مفهوم المخالفة أما مفهوم الموافقة فاتفقوا على التخصيص به قال الزركشي والحق أن الخلاف ثابت فيهما أما مفهوم المخالفة فكما إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم كما في قوله في أربعين شاة شاة ثم قال في سائمة الغنم الزكاة فإن المعلوفة خرجت بالمفهوم فيخصص به عموم الأول وذكر أبو الحسين بن القطان أنه لا خلاف في جواز التخصيص به ومثل بما ذكرناه وكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إذا ورد العام مجردا على صفة ثم أعيدت الصفة متأخرة عنه كقوله اقتلوا المشركين مع قوله قبله أو بعده اقتلوا أهل الأوثان من المشركين كان ذلك موجبا للتخصيص بالاتفاق ويوجب المنع من قتل أهل الكتاب وتخصيص ما بعده من العموم انتهى‏.‏

وإنما حكى الصفي الهندي الإجماع على التخصيص بمفهوم الموافقة لأنه أقوى من مفهوم المخالفة ولهذا يسميه بعضهم دلالة النص وبعضهم يسميه القياس الجلي وبعضهم يسميه المفهوم الأولى وبعضهم يسميه فحوى الخطاب وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ وقد اتفقوا على العمل به وذلك يستلزم الاتفاق على التخصيص به والحاصل أن التخصيص بالمفاهيم فرع العمل بها وسيأتي بيان ما هو الحق فيها إن شاء الله تعالى‏.‏

المسألة الخامسة والعشرون‏:‏ في التخصيص بالإجماع

قال الآمدي لا أعرف فيه خلافا وكذلك حكى الإجماع على جواز التخصيص بالإجماع الأستاذ أبو منصور قال ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع وقال ابن القشيري إن من خالف في التخصيص بدليل العقل يخالف هنا وقال القرافي الإجماع أقوى من النص الخاص لأن النص يحتمل نسخه والإجماع لا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ قال وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة ومثله ابن حزم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ واتفقت الأمة على أنهم لو بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم قال والجزية بالألف فعلمنا أنه أراد جزية معلومة ومثله ابن الحاجب بآية حد القذف وبالإجماع على التصنيف للعبد والحق أن المخصص هو دليل الإجماع لا نفس الإجماع كما تقدم‏.‏

المسألة السادسة والعشرون‏:‏ في التخصيص بالعادة

ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها‏.‏

قال الصفي الهندي وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أوجب أو حرم شيئا بلفظ عام ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها فهل تؤثر تلك العادة حتى يقال المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه أو بفعله أو لا تؤثر في ذلك بل هو باق على عمومه متناول لذلك البعض ولغيره‏.‏

الثاني‏:‏ أن تكون العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلا ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره كما لو قال نهيتكم عن أكل الطعام فهل يكون النهي مقتصرا على ذلك الطعام بخصوصه أم لا بل يجري على عمومه ولا تؤثر عاداتهم قال والحق أنها لا تخصص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عام والعادة ليست بحجة حتى تكون معارضة له انتهى‏.‏

وقد اختلف كلام أهل الأصول وصاحب المحصول وأتباعه تكلموا على الحالة الأولى واختار فيها أنه إن علم جريان العادة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم منعه عنها فيخصص بها والمخصص في الحقيقة هو تقريره صلى الله عليه وسلم وإن علم عدم جريانها ولم يخصص بها إلا أن يجمع على فعلها فيكون تخصيصا بالإجماع وأما الآمدي وابن الحاجب فتكلموا على الحالة الثانية‏.‏

قال الرزكشي وهما مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى فتفطن لذلك فإن بعض من لا خبرة له حاول الجمع بين كلام الإمام الرازي في المحصول وكلام الآمدي وابن الحاجب ظنا منه أنهما تواردا على محل واحد وليس كذلك وممن صرح بأنهما حالتان القرافي في شرح التنقيح وفرق بأن العادة السابقة على العموم تكون مخصصة والعادة الطارئة بعد العموم لا يقضي بها على العموم انتهى‏.‏

والحق أن تلك العادة إن كانت مشتهرة في زمن النبوة بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بما يفهمون وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم وإن لم تكن العادة كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها والعجب ممن يخصص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم فيه الشارع فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش أما لو قال المخصص بالعادة الطارئة إنه يخصص بها ما حدث بعد أولئك الأقوام المصطلحين عليها من التحاور في الكلام والتخاطب بالألفاظ فهذا مما لا بأس به ولكن لا يخفى أن بحثنا في هذا العلم إنما هو عن المخصصات الشرعية فالبحث عن المخصصات العرفية لما وقع التخاطب به من العمومات الحادثة من خلط هذا الفن بما ليس منه والخبط في البحث بما لا فائدة فيه‏.‏

المسألة السابعة والعشرون‏:‏ في التخصيص بمذهب الصحابي

ذهب الجمهور إلى أنه لا يخصص بذلك وذهبت الحنفية والحنابلة إلى أنه يجوز التخصيص به على خلاف بينهم في ذلك فبعضهم يخصص به مطلقا وبعضهم يخصص به إن كان هو الراوي للحديث‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم الرازي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إنه يجوز التخصيص بمذهب الصحابي إذا لم يكن هو الراوي للعموم وكان ما ذهب إليه منتشرا ولم يعرف له مخالف في الصحابة لأنه إما إجماع أو حجة مقطوع بها على الخلاف وأما إذا لم ينتشر فإن خالفه غيره فليس بحجة قطعا وإن لم يعرف له مخالف فعلى قول الشافعي الجديد ليس بحجة فلا يخصص به وعلى قوله القديم هو حجة يقدم على القياس وهل يخصص به العموم فيه وجهان وأما إذا كان الصحابي الذي ذهب إلى التخصيص هو الراوي للحديث فقد اختلف قول الشافعي في ذلك والصحيح عنه وعن أصحابه وعن جمهور أهل العلم أنه لا يخصص به خلافا لمن تقدم والدليل على ذلك أن الحجة إنما هي في العموم ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز التخصيص به‏.‏

واستدل القائلون بجواز التخصيص بأن الصحابي العدل لا يترك ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ويعمل بخلافه إلا لدليل قد ثبت عنده يصلح للتخصيص وأجيب عنه بأنه قد يخالف ذلك الدليل في ظنه وظنه لا يكون حجة على غيره فقد يظن ما ليس بدليل دليلا والتقليد للمجتهد من مجتهد مثله لا يجوز لا سيما في مسائل الأصول فالحق عدم التخصيص بمذهب الصحابي وإن كانوا جماعة ما لم يجمعوا على ذلك فيكون من التخصيص بالإجماع وقد تقرر الكلام عليه‏.‏

المسألة الثامنة والعشرون‏:‏ في التخصيص بالسياق

قد تردد قول الشافعي في ذلك وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به ومثله بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه فإنه بوب لذلك بابا فقال باب الصنف الذي قد بين سياقه معناه وذكر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏}‏ قال فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها وهو قوله‏:‏ ‏{‏إذ يعدون في السبت‏}‏‏.‏

قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص قال ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضا حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم قال ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما اشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصا فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره كما في ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره انتهى والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص‏.‏

المسألة التاسعة والعشرون‏:‏ في التخصيص بقضايا الأعيان

وذلك كإذنه صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير للحكة وفي جواز التخصيص بذلك قولان للحنابلة ولا يخفى أنه إذا وقع التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الإذن بالشيء أو الأمر به أو النهي عنه فهو من باب التخصيص بالعلة المعلقة على الحكم ولا يجوز التخصيص بالاستصحاب قال أبو الخطاب الحنبلي إنه لا يجوز التخصيص للعموم بالبقاء على حكم الأصل الذي هو الاستصحاب بلا خلاف‏.‏

قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة ذهب بعض ضعفاء المتأخرين إلى أن العموم يخص باستصحاب الحال قال لأنه دليل يلزم المصير إليه ما لم ينقل عنه ناقل فيجوز التخصيص به كسائر الأدلة وهذا في غاية التناقض لأن الاستصحاب من حقه أن يسقط بالعموم فكيف يصح تخصيصه به إذ معناه التمسك بالحكم لعدم دليل ينقل عنه والعموم دليل ناقل‏.‏

المسألة الموفية ثلاثين‏:‏ في بناء العام على الخاص

قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز فإذا كان العام الوارد من كتاب أو سنة قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي حكم به عليها فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فأما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فإما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب فإن تأخر عن وقت العمل بالعام فهاهنا يكون الخاص ناسخا لذلك اقدر الذي تناوله من أفراد العام‏.‏

قال الزركشي في البحر وفاقا ولا يكون تخصيصا لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعا وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به ففي ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فمن جوزه جعل الخاص بيانا للعام وقضى به عليه ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص كذا قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم الرازي قال ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وابن الصباغ في العدة‏.‏

قال الصفي الهندي من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالمعتزلة أحال المسألة ومنهم من جوزهما فاختلفوا فيه فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن الخاص مخصص للعام لأنه وإن جاز أن يكون ناسخا لذلك القدر من العام لكن التخصيص أقل مفسدة من النسخ وقد أمكن حمله عليه فتعين ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام وتخلل بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل أو الاعتقاد بمقتضى العام كان الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من العام لأنهما دليلان وبين حكميهما تناف فيجعل المتأخر ناسخا للمتقدم من الإمكان دفعا للتناقض قال وهو ضعيف انتهى فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص فعند الشافعية يبني العام على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام ظاهر مظنون والمتيقن أولى وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه والقاضي عبد الجبار إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم وذهب بعض المعتزلة إلى الوقف‏.‏

وقال أبو بكر الرازي إذا تأخر العام كان ناسخا لما تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص انتهى والحق في هذه الصورة البناء وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص لكنه قبل وقت العمل به فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالقاضي عبد الجبار فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ فتعين عليه البناء أو التعارض فيما تنافيا فيه‏.‏

وجعل إلكيا الطبري الخلاف في هذه المسألة مبنيا على تأخير البيان فقال من لك يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله ناسخا للخاص وهذه الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلوما فإن جهل تاريخهما فعند الشافعي وأصحابه والحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والقاضي عبد الجبار أنه يبني العام على الخاص وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر من غيرهما وحكى نحو ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني والدقاق والحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء وليس عنه مانع يصلح للتشبث به والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام والأقوى أرجح وأيضا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام وأيضا قد نقل أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل التاريخ والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير المذكورة في هذه المسألة وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط المتأخر على السابق، كما لو كان المتأخر خاصا فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة فلا ينتهض لترجيحه على قوي الدلالة وأيضا في البناء جمع وفي العمل بالعام ترجيح والجمع مقدم على الترجيح وأيضا في العمل بالعام إهمال للخاص وليس في التخصيص إهمال للعام كما تقدم وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العام إن شاء الله‏.‏

الباب الخامس في المطلق والمقيد

وفيه مباحث أربعة‏:‏

المبحث الأول‏:‏ في حدهما

أما المطلق فقيل في حده ما دل على شائع في جنسه ومعنى هذا أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما يدرج تحت أمر فيخرج من قيد الدلالة المهملات ويخرج من قيد الشيوع المعارف كلها لما فيها من التعيين إما شخصا نحو زيد وهذا أو حقيقة نحو الرجل وأسامة أو حصة نحو‏:‏ ‏{‏فعصى فرعون الرسول‏}‏ أو استغراقا نحو الرجال وكذا كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل وقيل في حده هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء وبأنه يرد عليه أعلام الأجناس كأسامة وثعالة فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي‏.‏

وأجاب عن ذلك الأصفهاني في شرحه للمحصول بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء بل غاير بينهما فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة قال وأما إلزامه بعلم الجنس فمردود بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخيص الذهني بخلاف اسم الجنس وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على الحد الذي أورده الآمدي للمطلق فإنه قال هو الدال على الماهية بقيد الوحدة وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب فإنه قال في حده هو ما دل على شائع في جنسه وقيل المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات وقال الصفي الهندي المطلق الحقيقي ما دل على الماهية فقط والإضافي مختلف نحو رجل ورقبة فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عامل ورقبة مؤمنة ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي لأنه يدل على واحد شائع وهما قيدان زائدان على الماهية وأما المقيد فهو ما يقابل المطلق على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلق فيقال فيه هو ما دل لا على شائع في جنسه فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها أو يقال في حده هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها أو ما كان له دلالة على شيء من القيود‏.‏

المبحث الثاني‏:‏ ‏[‏حكم الخطاب إذا ورد مطلقا وإذا ورد مقيدا‏]‏

اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقا لا مقيدا حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدا حمل على تقييده وإن ورد مطلقا في موضع آخر فذلك على أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أن يختلفا في السبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وإلكيا الهراس وابن برهان والآمدي وغيرهم‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال إن ظاهرت فأعتق رقبة وقال في موضع آخر إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب وابن فورك وإلكيا والطبري وغيرهم وقال ابن برهان في الأوسط اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل والصحيح من مذهبهم أنه يحمل ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في تفسيره أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة وحكى الطرسوسي الخلاف فيه عن المالكية وبعض الحنابلة وفيه نظر فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب وهو من المالكية ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق أي دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد وقيل إنه يكون نسخا أي دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق والأول أولى وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدما أو متأخرا أو جهل السابق فإنه يتعين الحمل كما حكاه الزركشي‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أن يختلفا في السبب دون الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين فهذا القسم هو موضع الخلاف فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد‏.‏

وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا يدعى وجوب هذا القياس بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا قال الرازي في المحصول وهو القول المعتدل قال واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين أما الأول يعني مذهب جمهور الشافعية فضعيف جدا لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا هاهنا والجواب عن الأول بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد وعن الثاني أنا إنما قيدناه بالإجماع وأما القول الثاني يعني ذهب الحنفية فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور انتهى‏.‏

قال إمام الحرمين الجويني في دفع ما قالوه من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة قد ادعى أمرا عظيما انتهى ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل‏.‏

وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل فإن قام الدليل على تقييده قيد وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة قال الرزكشي وهذا أفسد المذاهب لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها ولا يعدل إلى غيره‏.‏

وفي المسألة مذهب خامس وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في المقيد فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال قال الماوردي وهذا أولى المذاهب قلت بل هو أبعدها من الصواب‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أن يختلفا في الحكم نحو اكس يتيما أطعم يتيما فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف وحكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب‏.‏

المبحث الثالث‏:‏ ‏[‏في شروط حمل المطلق على المقيد‏]‏

اشترط القائلون بالحمل شروطا سبعة‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر وهذا كإيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء مع الاقتصار على عضوين في التيمم فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء حتى يلزم التيمم في الأربعة الأعضاء لما فيه من إثبات حكم لم يذكر وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات كما ذكرنا وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي والشيخ أبو حامد الإسفراييني والماوردي والروياني ونقله الماوردي عن الأبهري من المالكية ونقل الماوردي أيضا عن ابن خيران من الشافعية أن المطلق يحمل على المقيد في الذات وهو قول باطل‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها فهي شرط في الجمع وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد وصية توصون بها أو دين‏}‏ وإطلاق الميراث فيما أطلق فيه فيكون ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين فأما إذا كان المطلق دائرا بين قيدين متضادين نظر فإن كان السبب مختلفا لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل فيحمل على ما كان القياس عليه أولى أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى وممن ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والماوردي وحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق على اشتراطه قال الزركشي وليس كذلك فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافا لأصحابنا ولم يرجح شيئا‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يكون في باب الأوامر والإثبات أما في جانب النفي والنهي فلا فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي وهو غير سائغ وممن ذكر هذا الشرط الآمدي وابن الحاجب وقالا لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر فإذا قال لا تعتق مكاتبا كافرا ولا مسلما إذ لو أعتق واحدا منهما لم يعمل بهما وأما صاحب المحصول فسوى بين الأمر والنهي ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي والنهي بل يجري في جميع أقسام الكلام قال الزركشي وقد يقال لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل أفراد بعض مدلول العام وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور فلا وجه لذكره هاهنا انتهى والحق عدم الحمل في النفي والنهي وممن اعتبر هذا الشرط ابن دقيق العيد وجعله أيضا شرطا في بناء العام على الخاص‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن لا يكون في جانب الإباحة قال ابن دقيق العيد إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة إذ لا تعارض بينهما وفي المطلق زيادة قال الزركشي وفيه نظر‏.‏

الشرط الخامس‏:‏ أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل فإن أمكن بغير إعمالهما فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما ذكره ابن الرفعة في المطلب‏.‏

الشرط السادس‏:‏ أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا قطعا‏.‏

الشرط السابع‏:‏ أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد فإن قام دليل على ذلك فلا تقييد‏.‏

المبحث الرابع‏:‏ ‏[‏الحكم إذا أطلق في موضع وقيد مثله بقيدين متضادين‏]‏

اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق، فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص فذلك يغنيك عن تكثير المباحث في هذا الباب‏.‏

فائدة‏:‏

قال في المحصول إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين كيف يكون حكمه‏؟‏ مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ وصوم التمتع الوراد مقيدا بالتفريق في قوله‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم‏}‏ وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدا بالتتابع في قوله‏:‏ ‏{‏فصيام شهرين متتابعين‏}‏ قال فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظا ترك المطلق هاهنا على إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله هاهنا على ما كان القياس عليه أولى انتهى وقد تقدم في الشرط الثاني من المبحث الذي قبل هذا المبحث الكلام في المطلق الدائر بين قيدين متضادين وإنما ذكرنا هذه الفائدة لزيادة الإيضاح‏.‏

الباب السادس في المجمل والمبين

وفيه ستة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ ‏[‏في حدهما‏]‏

فالمجمل في اللغة المبهم من أجمل الأمر إذا أبهم وقيل هو المجموع من أجمل الحساب إذا جمع وجعله جملة واحدة وقيل هو المتحصل من أجمل الشيء إذا حصله وفي الاصطلاح ما له دلالة على أحد معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه كذا قال الآمدي وفي المحصول هو ما أفاد شيئا من جملة أشياء وهو متعين في نفسه واللفظ لا يعنيه قال ولا يلزم عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وليس بمتعين في نفسه فأي رجل ضربته جاز وليس كذلك اسم القرء لأنه يفيد إما الطهر وحده وإما الحيض وحده واللفظ لا يعنيه وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ يفيد وجوب فعل معين في نفسه غير متعين بحسب اللفظ‏.‏

وقال ابن الحاجب هو في الاصطلاح ما لم تتضح دلالته والمراد ما كان له دلالة في الأصل ولم تتضح فلا يرد المهمل وقيل هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء واعترض عليه بأنه لا يطرد ولا ينعكس أما عدم اطراده فلأن المهمل كذلك وليس بمجمل وأيضا المستحيل كذلك لأن المفهوم منه ليس بشيء اتفاقا وليس بمجمل لوضوح مفهومه وأما عدم الانعكاس فلأنه يجوز أن يفهم من المجمل أحد محامله لا بعينه كما في المشترك فلا يصدق الحد عليه وقال القفال الشاشي وابن فورك ما لا يستقل بنفسه في المراد منه حتى يأتي تفسير والأولى أن يقال هو ما دل دلالة لا يتعين المراد بها إلا بمعين سواء كان عدم التعين بوضع اللغة أو بعرف الشرع أو بالاستعمال‏.‏

وأما المبين‏:‏ فهو في اللغة المظهر من بان إذا ظهر يقال بين فلان كذا إذا أظهره وأوضح معناه وفي الاصطلاح هو ما افتقر إلى البيان والبيان مشتق من البين وهو الفراق لأنه يوضح الشيء ويزيل أشكاله كذا قال ابن فورك وفخر الدين الرازي في المحصول‏.‏

قال أبو بكر الرازي سمي بيانا لانفصاله عما يلتبس من المعاني وأما في الاصطلاح فهو الدال على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد كذا قال في المحصول ويطلق ويراد به الدليل على المراد ويطلق على فعل المبين ولأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة اختلفوا في تفسيره بالنظر إليها فالصيرفي لاحظ فعل المبين فقال البيان إخراج الشيء من حيز الأشكال إلى حيز التجلي وقال القاضي في مختصر التقريب وهذا ما ارتضاه من خاض في الأصول من أصحاب الشافعي‏.‏

واعترضه ابن السمعاني بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حيز الأشكال إلى حيز التجلي ولاحظ القاضي أبو بكر وإمام الحرمين والغزالي والآمدي والفخر الرازي وأكثر المعتزلة الدليل فقالوا هو الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب ولاحظ أبو عبد الله البصري نفسه فحده بحد العلم وحكى أبو الحسين عنه أنه العلم وحكى أبو الحسين عنه أنه العلم الحادث قال ولهذا لا يوصف الله سبحانه بأنه مبين لأن علمه لذاته لا بعلم حادث قال العبدري بعد حكاية المذاهب الصواب أن البيان هو مجموع هذه الأمور‏.‏

وقال شمس الأئمة السرخسي الحنفي اختلف أصحابنا في معنى البيان فقال أكثرهم هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب وقال بعضهم هو ظهور المراد للمخاطب والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب قال وهو اختيار أصحاب الشافعي لأن الرجل يقول بأن هذا المعنى أن ظهر والأول أصح أي الإظهار انتهى قال الأستاذ أبو بكر الإسفراييني قال أصحابنا إنه الإفهام بأي لفظ كان وقال أبو بكر الدقاق إنه العلم الذي يتبين به المعلوم وقال الشافعي في الرسالة إن البيان اسم جامع لأمور مجتمعة الأصول متشعبة الفروع‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ الإجمال في الكتاب والسنة

اعلم أن الإجمال واقع في الكتاب والسنة قال أبو بكر الصيرفي ولا أعلم أحدا أبى هذا غير داود الظاهري وقيل إنه لم يبق مجمل في كتاب الله تعالى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال إمام الحرمين إن مختار ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال وما لا يتعلق به تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قال الماوردي والروياني يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان لأنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله الحديث وتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها قالا وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد الأمرين‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من البيان فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها‏.‏

والثاني‏:‏ أن الله تعالى جعل من الأحكام جليا وجعل منها خفيا ليتفاضل الناس في العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها فلذلك جعل منها مفسرا جليا وجعل منهما مجملا خفيا قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي وحكم المجمل التوقف فيه إلى أن يفسر ولا يصح الاحتجاج بظاهره في شيء يقع فيه النزاع قال الماوردي إن كان الإجمال من جهة الاشتراك واقترن به تبيينه أخذ به فإن تجرد عن ذلك واقترن به عرف يعمل به فإن تجرد عنهما وجب الاجتهاد في المراد منه وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط فصار داخلا في المجمل لخفائه وخارجا منه لإمكان الاستنباط‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ ‏[‏الإجمال في حال الإفراد أو التركيب‏]‏

الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب والأول إما أن يكون بتصريفه نحو قال من القول والقيلولة ونحو مختار فإنه صالح للفاعل والمفعول قال العسكري ويفترقان تقول في الفاعل مختار لكذا وفي المفعول مختار من كذا ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تضار والدة بولدها‏}‏، ‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏}‏ وأما أن يكون بأصل وضعه فإما أن تكون معانيه متضاده كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان أو متشابهة غير متضادة فإما أن يتناول معاني كثيرة بحسب خصوصياتها فهو المشترك وأما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ والإجمال كما يكون في الأسماء على ما قدمنا يكون في الأفعال كعسعس بمعنى أقبل وأدبر ويكون في الحروف كتردد الواو بين العطف والابتداء وكما يكون في المفردات يكون في المركبات نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ لتردده بين الزوج والولي ويكون أيضا في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران أو أمور يصلح لكل واحد منها ويكون في الصفة نحو طبيب ماهر لترددها بين أن تكون للمهارة مطلقا أو للمهارة في الطب ويكون في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على الحقيقة فإن اللفظ يصير مجملا بالنسبة إلى تلك المجازات إذ ليس الحمل على بعضها أولى من الحمل على البعض الآخر كذا قال الآمدي والصفي الهندي وابن الحاجب وقد يكون في فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا يحتمل وجهين احتمالا واحدا وقد يكون قد ورد في الأوامر بصيغة الخبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن‏}‏ فذهب الجمهور إلى أنها تفيد الإيجاب وقال آخرون يتوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد بها‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ فيما لا إجمال فيه

وهو أمور قد يحصل فيها الاشتباه على البعض فيجعلها داخلة في قسم المجمل وليست منه‏.‏

الأول‏:‏ في الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ فذهب الجمهور إلى أنه لا إجمال في ذلك وقال الكرخي والبصري إنها مجملة احتج الجمهور بأن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل هذا طعام حرام هو تحريم أكله ومن قول القائل هذا المرأة حرام هو تحريم وطئها وتبادر الفهم دليل الحقيقة فالمفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ وتحريم الأكل لأن ذلك هو المطلوب من تلك الأعيان وكذا قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ فإن المفهوم منه هو تحريم الوطء واحتج الكرخي والبصري بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة فكيف إذا كانت موجودة فإذا لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس بعضها أولى من بعض فإما أن يضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز أو يتوقف في الكل وهو المطلوب وأيضا لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس كذلك وأجيب بأنه لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة التحريم إلى الفعل المطلوب منه وهو تحريم الاستمتاع وتحريم الأكل فهذا البعض متضح متعين بالعرف‏.‏

الثاني‏:‏ لا إجمال في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ وإلى ذلك ذهب الجمهور وذهب الحنفية إلى أنه مجمل لتردده بين الكل والبعض والسنة بينت البعض وحكاه في المعتمد عن أبي عبد الله البصري ثم اختلف القائلون بأن لا إجمال فقالت المالكية إنه يقتضي مسح الجميع لأن الرأس حقيقة في جميعه والباء إنما دخلت للإلصاق وقال الشريف المرتضى فيما حكاه عنه صاحب المصادر إنه يقتضي التبعيض قال لأن المسح فعل متعد بنفسه غير محتاج إلى حرف التعدية بدليل قوله مسحته كله فينبغي أن يفيد دخول الباء فائدة جيدة فلو لم يفد البعض يبقى اللفظ عاريا عن الفائدة وقالت طائفة أنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض فيصدق بمسح البعض ونسبه في المحصول إلى الشافعي قال البيضاوي وهو الحق‏:‏ ونقل ابن الحاجب عن الشافعي وأبي الحسين وعبد الجبار ثبوت البعض بالعرف والذي في المعتمد لأبي الحسين وعبد الجبار أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع لأنه متعلق بما سمي رأسا وهو اسم لجملة الرأس لا للبعض ولكن العرف يقتضي إلصاق المسح بالرأس إما بجميعه وإما ببعضه لصدق الاسم عليه وعبارة الشافعي في كتاب أحكام القرآن أن من مسح رأسه شيئا فقد مسح برأسه ولم تحتمل الآية إلا هذا قال فدلت السنة أنه ليس على المرء مسح رأسه كله وإذا دلت السنة على ذلك فمعنى الآية أن من مسح شيئا من رأسه أجزأه انتهى فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم ابن الحاجب ولا يخفاك أن الأفعال المنسوبة إلى الذوات تصدق بالبعض حقيقة لغوية فمن قال ضربت رأس زيد أو ضربت برأسه صدق ذلك بوقوع الفعل على جزء من الرأس فهكذا مسحت رأس زيد ومسحت برأسه وعلى كل حال فقد جاء في السنة المطهرة مسح كل الرأس ومسح بعضه فكان ذلك دليلا مستقلا على أنه يجزئ مسح البعض سواء كانت الآية من قبيل المجمل أم لا‏.‏

الثالث‏:‏ لا إجمال في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا‏}‏ عند الجمهور وقال بعض الحنفية إنها مجملة إذ اليد العضو من المنكب والمرفق والكوع لاستعمالها فيها والقطع للإبانة والشق لاستعماله فيهما وأجاب الجمهور بأن اليد تستعمل مطلقة ومقيدة فالمطلقة تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم وآية السرقة وآية المحاربة وأجاب بعضهم بأن اليد حقيقة في العضو إلى المنكب ولما دونه مجاز فلا إجمال في الآية وهذا هو الصواب وقد جاءت السنة بأن القطع من الكوع فكان ذلك مقتضيا للمصير إلى المعنى المجازي في الآية ويجاب عما ذكر في القطع بأن الإجمال إنما يكون مع عدم الظهور في أحد المعنيين وهو ظاهر في القطع لا في الشق الذي هو مجرد قطع بدون إبانة‏.‏

الرابع‏:‏ لا إجمال في نحو‏:‏ «لا صلاة إلا بطهور لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا صيام من لم يبيت الصيام من الليل لا نكاح إلا بولي لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وإلى ذلك ذهب الجمهور قالوا لأنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه لا صلاة صحيحة ولا صيام صحيح ولا نكاح صحيح فلا إجمال وإن لم يثبت عرف شرعي فإن ثبت فيه عرف لغوي وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى نحو لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد فيتعين ذلك فلا إجمال وإن قدر انتفاؤهما فالأولى حمله على نفي الصحة دون الكمال لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى بخلاف ما لا يكمل فكان أقرب المجازين إلى الحقية المتعذرة فلا إجمال وهذا بناء منهم على أن الحقيقة متعذرة لوجوب الذات في الخارج ويمكن أن يقال إن المنفى هو الذات الشرعية والتي وجدت ليست شرعية فيبقى حمل الكلام على حقيقته وهي نفي الذات الشرعية فإن دل دليل على أنه لا يتوجه النفي إليها كان توجهه إلى الصحة أولى لأنها أقرب المجازين إذ توجيهه إلى نفي الصحة يستلزم نفي الذات حقيقة بخلاف توجيهه إلى الكمال فإنه لا يستلزم نفي الذات فكان توجيهه إلى الصحة أقرب المجازين إليها فلا إجمال وليس هذا من باب إثبات اللغة بالترجيح بل من باب ترجيح أحد المجازين على الآخر بدليل وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وأبو عبد الله البصري إلى أنه مجمل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي واختلف هؤلاء في تقرير الإجمال على ثلاثة وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنه ظاهر في نفي الوجود وهو لا يمكن لأنه واقع قطعا فاقتضى ذلك الإجمال‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملا‏.‏

الثالث‏:‏ أنه متردد بين نفي الجواز ونفي الوجوب فصار مجملا قال بعض هؤلاء في تقرير الإجمال إما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ولأنه قد يفضي أيضا إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معا كان نفي الصحة يقتضي نفيها ونفيها يستلزم نفي الذات وكان نفي الكمال يقتضي ثبوت الصحة فكان مجملا من هذه الحيثية وهذا كله مدفوع بما تقدم‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

الخامس‏:‏ لا إجمال في نحو قوله‏:‏ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» مما ينفي فيه صفة والمراد نفي لازم من لوازمه وإلى ذلك ذهب الجمهور لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع نفي المؤاخذة ورفع العقوبة فإن السيد إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان المفهوم منه أني لا أؤاخذك به ولا أعاقبك عليه فلا إجمال قال الغزالي قضية اللفظ رفع نفس الخطأ والنسيان وهو غير معقول فالمراد به رفع حكمه لا على الإطلاق بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال قبل الشرع وهو رفع الإثم فليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيرهما وقال أبو الحسين وأبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ظاهره نفس رفع الخطأ والنسيان وقد وقعا وقد حكى شارح المحصول في هذه المسألة ثلاثة مذاهب‏:‏ أحدها أنه مجمل والثاني الحمل على رفع العقاب آجلا والإثم عاجلا قال وهو مذهب الغزالي والثالث رفع جميع الأحكام الشرعية واختاره الرازي في المحصول وممن حكى هذه الثلاثة المذاهب القاضي عبد الوهاب في الملخص ونسب الثالث إلى أكثر الفقهاء من الشافعية والمالكية واختار هو الثاني والحق ما ذهب إليه الجمهور للوجه الذي قدمنا ذكره‏.‏

السادس‏:‏ إذا دار لفظ الشارع بين مدلولين أن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدا وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ولا ظهور له في أحد المعنيين اللذين دار بينهما قال الصفي الهندي ذهب الأكثرون إلى أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر في إفادة المعنيين اللذين هما أحد مدلوليه وذهب الأقلون إلى أنه مجمل وبه قال الغزالي واختاره ابن الحاجب واختار الأول الآمدي لتكثير الفائدة قال الآمدي والهندي محل الخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن حقيقة في المعنيين فإنه يكون مجملا أو حقيقة في أحدهما فالحقيقة مرجحة وظاهرة جعل الخلاف فيما إذا كانا مجازين لأنهما إذا لم يكونا حقيقتين ولا أحدهما حقيقة والآخر مجازا فما بقي إلا أن يكونا مجازين قال الزركشي والحق أن صورة المسألة أعم من ذلك وهو اللفظ المحتمل لمتساويين سواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة مرجوحة والآخر مجازا راجحا عند القائل بتساويهما ويكون ذلك باعتبار الظهور والخفاء انتهى والحق أنه مع عدم الظهور في أحد مدلوليه يكون مجملا ولا يصح جعل تكثير الفائدة مرجحا ولا رافعا للإجمال فإن أكثر الألفاظ ليس لها إلا معنى واحد فليس الحمل على كثرة الفائدة بأولى من الحمل على المعنى الواحد لهذه الكثيرة التي لا خلاف فيها‏.‏

السابع‏:‏ لا إجمال فيما كان له مسمى لغوي ومسمى شرعي كالصوم والصلاة عند الجمهور بل يجب الحمل على المعنى الشرعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات لا لبيان معاني الألفاظ اللغوية والشرع طارئ على اللغة وناسخ لها فالحمل على الناسخ المتأخر أولى وذهب جماعة إلى أنه مجمل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحاب الشافعي وذهب جماعة إلى التفصيل بين أن يرد على طريقة الإثبات فيحمل على المعنى الشرعي وبين أن يرد على طريقة النفي فمجمل لتردده فالأول كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني صائم» فيستفاد منه صحة نية النهار والثاني كالنهي عن صوم أيام التشريق فلا يستفاد منه صحة صومها واختار هذا التفصيل الغزالي وليس بشيء وثم مذهب رابع وهو أنه لا إجمال في الإثبات الشرعي والنهي اللغوي واختاره الآمدي ولا وجه له أيضا والحق ما ذهب إليه الأولون لما تقدم وهكذا إذا كان للفظ محمل شرعي ومحمل لغوي فإنه يحمل على المحمل الشرعي لما تقدم وهكذا إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي فإنه يحمل على الشرعي لما تقدم أيضا وهكذا إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي واللغوي فإنه يقدم العرفي على اللغوي‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في مراتب البيان للأحكام

وهي خمسة بعضها أوضح من بعض‏:‏

الأول‏:‏ بيان التأكيد وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل كقوله تعالى في صوم التمتع ‏{‏فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة‏}‏ وسماه بعضهم بيان التقرير وحاصله أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص فيكون البيان قاطعا للاحتمال مقررا للحكم على ما اقتضاه الظاهر‏.‏

الثاني‏:‏ النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء كالواو وإلى في آية الوضوء فإن هذين الحرفين مقتضيان لمعان معلومة عند أهل اللسان‏.‏

الثالث‏:‏ نصوص السنة الواردة بيانا لمشكل في القرآن كالنص على ما يخرج عند الحصاد مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق‏.‏

الرابع‏:‏ نصوص السنة المبتدأة مما ليس في القرآن نص عليها ولا بالإجمال ولا بالتبيين ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ بيان الإشارة وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني وقيس عليها غيرها لأن الأصل إذا استنبط منه معنى وألحق به غيره لا يقال لم يتناوله النص بل تناوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربوبيات بالأربعة المنصوص عليها لأن حقيقة القياس بيان المراد بالنص وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد ذكر هذا المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول الرسالة‏.‏

وقد اعترض عليه قوم وقالوا قد أهمل قسمين وهما الإجماع وقول المجتهد إذا انقرض عصره وانتشر من غير نكير‏.‏

قال الزركشي في البحر إنما أهملهما الشافي لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل فإن كان نصا فهو من الأقسام الأول وإن كان استنباطا فهو الخامس‏.‏

قال ابن السمعاني يقع بيان المجمل بستة أوجه‏:‏ أحدها بالقول وهو الأكثر والثاني بالفعل والثالث بالكتاب كبيان أسنان الديات وديات الأعضاء ومقادير الزكاة فإنه صلى الله عليه وسلم بينها بكتبه المشهورة والرابع بالإشارة كقوله الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني ثلاثين يوما ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات وحبس إبهامه في الثالثة إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين والخامس بالتنبيه وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام كقوله في بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا جف وقوله في قبلة الصائم أرأيت لو تمضمض السادس ما خص العلماء بيانه عن اجتهاد وهو ما فيه الوجوه الخمسة إذا كان الاجتهاد موصولا إليه من أحد وجهين إما من أصل يعتبر هذا الفرع به وإما من طريق أمارة تدل عليه وزاد شارح اللمع وجها سابعا وهو البيان بالترك كما روى أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور رتب بعض أصحابنا ذلك فقال أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب ثم بالفعل ثم بالإشارة ثم بالكتابة ثم بالتنبيه على العلة قال ويقع بيان من الله سبحانه وتعالى بها كلها خلا الإشارة انتهى‏.‏

قال الزركشي لا خلاف أن البيان يجوز بالقول واختلفوا في وقوعه بالفعل والجمهور على أنه يقع بيانا خلافا لأبي أسحاق المروزي منا والكرخي من الحنفية حكاه الشيخ أبو إسحاق في التبصرة انتهى ولا وجه لهذا الخلاف فإن النبي بين الصلاة والحج بأفعاله وقال‏:‏ «صلوا كما رأيتموني أصلي حجوا كما رأيتموني أحج وخذوا عني مناسككم» ولم يكن لمن منع من ذلك متمسك لا من شرع ولا من عقل بل مجرد مجادلات ليست من الأدلة في شيء وإذا ورد بعد المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح لبيانه فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو البيان قولا كان أو فعلا والثاني تأكيد له وقيل إن المتأخر إن كان الفعل لم يحمل على التأكيد لأن الأضعف لا يؤكد الأقوى وإن جهل المتقدم منهما فلا يقضي على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقضي بحصول البيان بواحد منهما لم نطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر وقيل يكونان بمجموعهما بيانا قيل هذا إذا تساويا في القوة فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم ورودا وإلا لزم التأكيد بالأضعف هذا إذا اتفق القول والفعل أما إذا اختلفا فذهب الجمهور أن المبين هو القول ورجح هذا فخر الدين الرازي وابن الحاجب سواء كان متقدما أو متأخرا ويحمل الفعل على الندب لأن دلالة القول على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أولى‏.‏

وقال أبو الحسين البصري المتقدم منهما هو البيان كما في صورة اتفاقهما‏.‏

الفصل السادس‏:‏ في تأخير البيان عن وقت الحاجة

اعلم أن كل ما يحتاج إلى البيان من مجمل وعام ومجاز ومشترك وفعل متردد ومطلق إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن يتأخر عن وقت الحاجة وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب وذلك في الواجبات الفورية لم يجز لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق وأما من جوز التكليف بما لا يطاق فهو يقول بجوازه فقط لا بوقوعه فكان عدم الوقوع متفقا عليه بين الطائفتين ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه قال ابن السمعاني لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطئ إذا نظر فهذانك القربان لا خلاف فيهما انتهى‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ تأخيره عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل وذلك في الواجبات التي ليست بفورية حيث يكون الخطاب لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة أوله ظاهر وقد استعمل في خلافه كتأخير التخصيص والنسخ ونحو ذلك وفي ذلك مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ الجواز مطلقا قال ابن برهان وعليه عامة علمائنا من الفقهاء والمتكلمين ونقله ابن فورك والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني عن ابن سريج والأصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والقفال وابن القطان والطبري والشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي واختاره الرازي في المحصول وابن الحاجب وقال الباجي عليه أكثر أصحابنا وحكاه القاضي عن مالك واستدلوا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه‏}‏ وثم للتعقيب مع التراخي وقوله في قصة نوح وأهلك وحكمه تناول ابنه وبقوله‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ ثم لما سأل ابن الزبعري عن عيسى والملائكة نزل قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ الآية وبقوله‏:‏ ‏{‏فأن لله خمسه‏}‏ لم يبين بعد ذلك أن السلب للقاتل وبقوله‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ ثم وقع بيانها بعد ذلك بصلاة جبريل وبصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وبقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة ونحو هذا كثير جدا‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ المنع مطلقا ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني عن أبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي وأبي حامد المروزي ونقله الأستاذ أبو إسحاق عن أبي بكر الدقاق قال القاضي وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية وابن داود الظاهري ونقله ابن القشيري عن داود الظاهري ونقله المازري والباجي عن الأبهري قال القاضي عبد الوهاب قالت المعتزلة والحنفية لابد أن يكون الخطاب متصلا بالبيان أو في حكم المتصل احترازا من انقطاعه بعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض قال ووافقهم بعض المالكية والشافعية واستدل هؤلاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع فقالوا لو جاز ذلك فإما أن يكون إلى مدة معينة أو إلى الأبد وكلاهما باطل أما إلى مدة معينة فلكونه تحكما ولكونه لم يقل به أحد وأما إلى الأبد فلكونه يلزم المحذور وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم وأجيب عنهم باختيار جوازه إلى مدة معينة عند الله وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه فلا تحكم هذا أنهض ما استدلوا به على ضعفه وقد استدلوا بما هو دونه في الضعف فلا حاجة لنا إلى تطويل البحث بما لا طائل تحته‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره حكاه القاضي أبو الطيب والقاضي عبد الوهاب وابن الصباغ عن الصيرفي وأبي حامد المروزي قال أبو الحسين بن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل كقوله‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ وكذا لا يختلفون أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل يتأخر عن القول لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا‏}‏ فقد اختلفوا فيه فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه كما هو مذهب أبي بكر الصيرفي وكذا حكى اتفاق أصحاب الشافعي على جواز تأخير بيان المجمل ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ولم يأتوا بما يدل على عدم جواز التأخير فيما عدا ذلك إلا ما لا يعتد به ولا يلتفت إليه‏.‏

المذهب الرابع‏:‏ أنه يجوز تأخير بيان العموم لأنه قبل البيان مفهوم ولا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه قبل البيان غير مفهوم حكاه الماوردي والروياني وجها لأصحاب الشافعي ونقله ابن برهان في الوجيز عن عبد الجبار ولا وجه له‏.‏

المذهب الخامس‏:‏ أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ولا يجوز تأخير بيان الأخبار كالوعد والوعيد حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة ولا وجه له أيضا‏.‏

المذهب السادس‏:‏ عكسه حكاه الشيخ أبو إسحاق مذهبا ولم ينسبه إلى أحد ولا وجه له أيضا ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله مذهبا قال لأن موضوع المسألة التكليفي فلا تذكر فيها الأخبار قال الزركشي وفيه نظر‏.‏

المذهب السابع‏:‏ أنه يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره ذكر هذا المذهب أبو الحسين في المعتمد وأبو علي وأبو هاشم وعبد الجبار ولا وجه له أيضا لعدم الدليل الدال على عدم جواز التأخير فيما عدا النسخ وقد عرفت قيام الأدلة المتكثرة على الجواز مطلقا فالاقتصار على بعض ما دلت عليه دون بعض بلا مخصص باطل‏.‏

المذهب الثامن‏:‏ التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك دون ما له ظاهر كالعام والمطلق والمنسوخ ونحو ذلك فإنه لا يجوز التأخير في الأول ويجوز في الثاني نقله فخر الدين الرازي عن أبي الحسين البصري والدقاق والقفال وأبي إسحاق وقد سبق النقل عن هؤلاء بأنهم يذهبون إلى خلاف ما حكاه عنهم ولا وجه لهذا التفصيل‏.‏

المذهب التاسع‏:‏ أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا ولا تغييرا جاز مقارنا وطارئا وإن كان تغييرا جاز مقارنا ولا يجوز طارئا بالحال نقله السمعاني عن أبي زيد من الحنفية ولا وجه له أيضا فهذه جملة المذاهب المروية في هذه المسألة وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا لا ينكره من له أدنى خبرة بها وممارسة لها وليس على هذه المذاهب المخالفة لما قاله المجوزون أثارة من علم وقد اختلف القائلون بجواز التأخير في جواز تأثير البيان على التدريج بأن يبين بيانا أولا ثم يبين بيانا ثانيا كالتخصيص بعد التخصيص والحق الجواز لعدم المانع من ذلك لا من شرع ولا عقل فالكل بيان‏.‏